أزعم أننا كفلسطينيين ما زلنا نحاول الإجابة الشافية عن السؤال الآتي:
هل أنّ شرعنة الفاشية في إسرائيل، ستؤدّي إلى «تعزيز» دورها ومكانتها؟ وإلى «انتصار» المشروع الصهيوني على الأرض، وتكريس الحل الإسرائيلي، وإلى «تصفية» القضية الفلسطينية من «كل» جوانبها؟ كما يدّعي التيار اليميني، القومي والديني الجارف فيها، وكما يتعهد الجناح الكاهاني بالإشراف المباشر على تحقيق وتطبيق هذه التصفية ــ بعد أن تمّت شرعنته، وبعد أن أصبح وتحول إلى الحزب الثاني في الحكومة القادمة ــ أم أن شرعنة الفاشية في إسرائيل ستؤدي إلى نتائج عكسية، من عنف عارم في الداخل الفلسطيني، وفي الأرض المحتلة، وإلى «صدام» غير مسبوق مع قطاعات سياسية واجتماعية إسرائيلية، ومن صدام وغير مسبوق، أيضاً، مع يهود العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة، وممّن يرون في هذه «الشرعنة» كارثة سياسية على إسرائيل، وعلى يهود العالم وإلى خطر حقيقي على المجتمع الإسرائيلي وعلى ما تبقّى من صورة إسرائيل في العالم، وفي غربه على وجه التحديد والخصوص؟
ويطرح نفس هذا السؤال من زوايا أخرى تتصل به وتتفرّع عنه، أيضاً.
ولعلّ السؤال المنطقي هنا هو: ماذا تبقّى لهذا التيار اليميني الجارف لكي يسعى ويحاول «جرّ» قطاعات جديدة إلى استراتيجيته وفكره السياسي وبرامجه العملية؟
وإذا أصبح «الموت للعرب» كشعار يُناقَش على مستوى «رئيس الدولة» من زاوية أن الموت «لا يجوز» أن يُطرح ضد «كل العرب»، فهل أن الموت لكل العرب هو الذي تبقّى من احتياطٍ استراتيجي لهذا التيار؟
وهل تحول «الترانسفير» بطرد وترحيل قيادات الجماهير الفلسطينية في «الداخل» إلى سورية إلى مجرد «نموذج» لماذا هو قادم في مخططات الترحيل «المتدرّج»، ولكن الصاعد، والصاعد ليشمل «فئات» بكاملها من الأرض المحتلة؟
أهذا ما تبقّى من احتياطات كامنة، أو ما زالت كامنة على هذا المستوى؟
هل الضمّ الزّاحف لم يعد «كافياً»، وأن «بالإمكان» الآن الذهاب إلى إعلانات رسمية «ترافقها احتفالات شعبية»، بضمّ كامل المنطقة (ج) هو الاحتياط الكامن الآخر نحو المزيد من ترسيخ مفاهيم هذا التيار في الحياة السياسية الإسرائيلية؟
هل استكمال قانون الغلبة للكنيست الإسرائيلي بات أحد أهم استهدافات هذا اليمين للإطاحة «بسلطة» القضاء، وإقصاء «المحكمة العليا» عن كامل الحيّز السياسي، وغير السياسي هو بدوره بات إحدى نقاط التحول «الاستراتيجي» الحاسم نحو تحكّم هذا التيار بمفاصل الدولة والمجتمع في إسرائيل؟
وهل أن الجناح الديني في إطار هذا التيار الجارف بات يتطلّع إلى «فرض» الشريعة اليهودية في مجالات معيّنة، وفي مناطق معيّنة، على طريق فرضها لاحقاً بصورة أكبر وأعمق طالما أن هذا الجناح بات يمتلك أكثر من 32 عضواً في هذا الكنيست؟
وهل أن تصويت 30% من جنود وضباط الجيش للصهيونية الدينية، وحوالى 50% من أجهزة الشرطة والأمن المختلفة ما زال دون المستوى المطلوب؟ وأن الأمر من هذه الزاوية يحتمل المزيد والمزيد من الاصطفاف لصالح الفاشية، ويحتاج أو ما زال يحتاج إلى الوقت الكافي، والوسائل «الضرورية» لاستكمال ضمان الخضوع لبرامج الفاشية في كل الاتجاهات؟
وفي نهاية هذا الشق من السؤال، ولكي يتمّ الربط بينه وبين السؤال الأول يتعيّن علينا ــ على ما يبدو ــ أن نمعن النظر فيما إذا كانت هذه «الاحتياطات الكامنة» ستؤدي في النهاية إلى المزيد من الانزياحات المجتمعية الإسرائيلية إلى ذلك اليمين القومي والديني، تحت قيادة حزب «الليكود» الذي هو الحزب الرسمي للمستوطنين الذين يتوزعون على مفاصل صنع القرار في هذا الحزب، بدعم مباشر من الجناح الديني وبدور مركزي فعّال من الفاشية، أم أن هذه الانزياحات الجديدة ــ إن حصلت ــ هي التي ستطيح بكلّ ما بناه «اليمين» منذ العام 1977، وستؤدي إلى انشقاقات وتصدعات كبيرة بين يهود العالم أنفسهم، وبين اليهود الإسرائيليين، وبين إسرائيل الدولة ودول العالم «الحرّ»، وستؤدّي، أيضاً، إلى عزلة غير مسبوقة لإسرائيل، وإلى حصارها على مستوى مؤسسات القانون الدولي، وملاحقتها ومطاردتها من قبل المجتمع المدني في العالم كلّه، وإلى دخولها المحتوم في نفس النفق الذي كان قد دخل فيه نظام جنوب أفريقيا العنصري الغابر؟
ولهذا فإننا كفلسطينيين نمتلك اليوم احتياطات استراتيجية كامنة، أو أن جزءاً كبيراً ما زال كامناً لخوض معركة وطنية تشمل كل الشعب الفلسطيني لبناء تحالفٍ عالمي، أو جهةٍ عالمية متحدة وموحّدة سيكون في مركز أهدافها، وفي القلب من برنامجها مناهضة الفاشية والعنصرية في إسرائيل.
واضح أن صعود الفاشية وشرعنتها سيدخلان إسرائيل في مرحلة أعلى وأعمق من أزمتها الناتجة عن أزمة المشروع الصهيوني نفسه، والذي استنفد إمكانيات البقاء، والقدرة على الفعل والتأثير إلّا بتجاوز شروطه التاريخية السابقة، التي أنجبته من رحم المشروع الاستعماري الغربي وتطور بأدوات وأفكار وسياسات هذا المشروع إلى أن وصل اليوم إلى مفترق طرق فاصل.
فإمّا أن تنتصر في الغرب «حاضنة تاريخية جديدة» تتمثل بـ «اليمين المحافظ» في الولايات المتحدة وأوروبا، أو أن المشروع الصهيوني نفسه يعيد «تكييف نفسه ويكيّفها» مع عالم يولد أمام أعيننا لم يعد يتحمّل كل هذا العبث الذي مثّلته إسرائيل، وكل هذا العبء الثقيل على التوازن الدولي وعلى الضمير الإنساني في آن معاً.
الأزمة الإسرائيلية في طورها الجديد هي في أن الوجه القبيح لإسرائيل كان أو كاد يكون «محصوراً» في الاحتلال على مدى سنوات وسنوات، أما اليوم، وفي الغد القريب فإن هذا الوجه أصبح ملطخاً وهو سيتلطّخ بدم الشعب الفلسطيني أكثر فأكثر، وستتحول معركة المساواة ومناهضة العنصرية والفاشية إلى معارك وطنية وإقليمية وعالمية يشارك فيها يهود العالم من ذوي الأفكار التقدمية أو الليبرالية، وتشارك فيها قطاعات إسرائيلية متزايدة، ناهيكم طبعاً عن مشاركة فاعلة من القوى والمنظمات والأحزاب الديمقراطية على امتداد عالم بكامله.
صعود الفاشية وشرعنتها لم يعودا يتيحان لأحد في الساحة الفلسطينية المراوغة أو الخداع والانخداع، أو الاستمرار في لعبة الانقسام وألاعيب المراهنات على حلول ترقيعية للإبقاء على حالة الشلل الوطني الشامل، والعجز عن إنهاء هذا الانقسام وهذا الشلل.
العالم لن ينتظرنا حتى ننجز في أسابيع أو شهور، أو حتى سنة كاملة ما فشلنا في إنجازه على مدى ثلاثة عقود من المراوحة، وعلى نصف هذه العقود الثلاثة لإنهاء الانقسام.
هذا هو التحدّي الأكبر اليوم، وهذه هي الفرصة الأخيرة لكل من يعتقد في نفسه، أو هو نصّب نفسه كقيادة لهذا الشعب في كل مكان وفي كل مجال.
الصراع في عالم اليوم يأكل المسافات الطويلة في أيامٍ وأسابيع، واللحم الفلسطيني الحي يتآكل كل يوم، والجسد الفلسطيني لا يتوقف عن النزف يوماً واحداً، والوقت يضيق على الجميع دون أي استثناء على الإطلاق.