أخيراً، ومتأخّراً جاء توجّه دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة بمشروع قرار بدعوة محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهي أعلى سلطة قضائية في الأمم المتحدة، بطلب إصدار فتوى قانونية عاجلة بشأن، مدى قانونية الاحتلال الإسرائيلي الذي يفترض بموجب قرار (242) أن يكون مؤقّتاً.
حصول القرار على تأييد ثمانية وتسعين صوتاً، مقابل سبعة عشر صوتاً ضده، واثنين وخمسين صوتاً بالامتناع، يشكل نصراً للقضية الفلسطينية، لكن التصويت ينطوي على ملاحظات لا بدّ من أخذها في الاعتبار.
منذ سنوات، ومشاريع القرارات الفلسطينية في الأمم المتحدة تخطّت حاجز المئة، وفي أحيانٍ تخطّت حاجز المئة وخمسين صوتاً.
واضح أنّ الدول التي صوّتت ضد القرار الفلسطيني، قد حافظت على مواقفها إزاء القضية الفلسطينية، حيث اتخذت جانب الانحياز الدائم لصالح الاحتلال الإسرائيلي، وهي ترفض دائماً أي قرار لصالح الفلسطينيين.
الجديد في الأمر أن عدداً كبيراً من الدول، خصوصاً الإفريقية ثم الأميركية اللاتينية فالآسيوية، فضّلت أن تمتنع عن التصويت ما يشير من ناحية إلى ضعف التحرك الفلسطيني عموماً، ومن ناحيةٍ أخرى، إلى مدى الضغوط الأميركية الإسرائيلية على عديد الدول الضعيفة. وبالأحرى، فإن كل الشواهد تشير إلى ضعف الدور العربي في العلاقة مع الدول الإفريقية، والدول الأخرى. وهذا أحد تداعيات التراجع العربي عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وتخلّي عديد الدول العربية عن منطق الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وربما كان الأسوأ أنّ حركة «التطبيع» العربية، التي تبحث عن شراكات مع الاحتلال قد تركت آثارها على كثيرٍ من دول العالم وفق منطق «ليس علينا أن نكون ملكيين أكثر من الملك».
ويوضح التصويت، أن كثيراً من دول العالم، لم تعد تخجل من ممارسة سياسة الكيل بمكاييل وليس بمكيالين وحسب، وأن المصالح الأنانية لبعض الدول، وخوف بعضها الآخر، يجعلها في ذيل السياسة الغربية عموماً والأميركية على نحوٍ خاص.
القرار الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة، ومحكمة العدل في لاهاي، يشكل بدوره تطوّراً مهمّاً في السياسة الفلسطينية، من حيث أوّلاً أنه ينطوي على قراءة للتحولات السياسية في إسرائيل، وعلى مستوى علاقة المجتمع الدولي بملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي.
يعكس هذا التوجّه استعداداً فلسطينياً لتحدي الضغوط الإسرائيلية والأميركية القوية، وكذلك الضغوط الأوروبية، التي حاولت منع المنظمة من السير في هذا الطريق، أو على الأقلّ لتأجيل ذلك، ولكن من دون بيان إلى متى ولماذا التأجيل.
الغرب المنافق، يستخدم المال للضغط على الفلسطينيين، بالرغم من إظهاره الامتعاض، إثر ظهور نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وانتقاداته الدائمة للاستيطان والتصعيد الإسرائيلي.
في الواقع ليست هذه هي المرّة الأولى التي تمارس فيها الولايات المتحدة وأوروبا الضغط على الفلسطينيين لمنعهم من التوجّه إلى المحاكم الدولية، ومنصّات العدالة، وقد استجابت فلسطين في أغلب الأحيان، لكن التوجّه الأخير نحو لاهاي، قد يشكّل بداية طريق جديد أو على الأقلّ فإنه يحمل رسالة تهديد لحلفاء إسرائيل.
نرجو أن لا نقرأ أو نسمع أحداً من الفلسطينيين، وهو يقلل من أهمية هذا القرار وتداعياته، حتى وإن كان سيلحق بالقرار الاستشاري الذي صدر عن المحكمة ذاتها بشأن جدار الفصل العنصري.
جلعاد أردان ممثل إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة، استشاط غضباً من القرار، وأفصح في تعليقه عن أهداف إسرائيل الاستراتيجية الطامعة فيما سمّاه أرض الآباء والأجداد، ويقصد الضفة والقدس.
لكأنه جاء بجديد، يقول أردان، إن التوجه لمحكمة لاهاي هو المسمار الأخير في نعش أي فرصة للتهدئة والتقدم نحو المستقبل.
في تصريحه يؤكد أردان الطبيعة العدوانية والعنصرية للاحتلال الإسرائيلي الذي يتحمّل المسؤولية عن التصعيد، كسياسة رسمية، أصيلة، ثم إنه يتحدث عن الهدوء، والمستقبل من دون أي ذكر للسلام.
هذا يعني أن إسرائيل ليس في فكرها أو واردها أو مخططاتها شيء اسمه عملية سلام، أو الانصياع لقرارات المجتمع الدولي، وأن كل ما لديها هو الهدوء والسلام الاقتصادي لا غير.
ويهدد أردان، بما يعرفه الفلسطينيون مسبقاً، باتخاذ خطوات أحادية الجانب، وقد يقصد الإعلان عن بسط السيادة على الضفة والقدس، خصوصاً أن نتنياهو كان أعلن نيته فرض السيادة الأمنية الكاملة على الأراضي المحتلة العام 1967.
لن تنفذ إسرائيل، أي قرار أو استشارة قانونية تصدر عن محكمة لاهاي أو غيرها، وهي تاريخياً لم تسجل على نفسها أنها بادرت أو انصاعت لتنفيذ أي قرار من مئات القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة.
ولكن حتى لا يكون هذا القرار الفلسطيني، قراراً معزولاً أو تكتيكياً، ينبغي أن يشكل بداية لإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني وترميم العلاقات الفلسطينية الداخلية، ونحو إعادة بناء جسور الثقة بين المستوى السياسي الرسمي والفصائلي وبين المجتمع الفلسطيني.
لن نردد ما نقوله ويطالب به الجميع إزاء موضوع إنهاء حالة الانقسام البغيض، شديد الخطورة على القضية والشعب الفلسطيني، ولكن الأمر يستدعي رد الأمانة للشعب، فهو الأقدر على تحمّل المسؤولية وتحمّل أعباء المواجهة الشرسة مع الاحتلال وحلفائه وداعميه والمتواطئين معه من العرب وغيرهم.
ردّ الأمانة يعني المباشرة بإجراء الانتخابات الشاملة، رئاسية وتشريعية، ومجلساً وطنياً وهيئات محلية، ومنظمات أهلية ونقابات، وإلّا فإن الوضع القائم والمزري، من شأنه أن يولد ويفاقم المزيد من الأزمات السياسية والمجتمعية.
الانتخابات وترميم الوضع الداخلي هما البوّابة الحقيقية نحو ترميم الأوضاع العربية والعلاقات مع دول العالم.