أجبرت العملية المزدوجة التي وقعت في مدينة القدس الغربية أول من أمس، جيش الاحتلال الإسرائيلي، على إعلان حالة الاستعداد من الدرجة الثالثة، وأجبرت رئيس هيئة أركان حربه، أفيف كوخافي، على قطع زيارته، وهي الأخيرة له وهو في المنصب للولايات المتحدة، والعودة لإسرائيل، تلك الزيارة التي يبدو بأنه كان يهيئ فيها الترتيبات الخاصة بمواصلة الحرب مع إيران، وربما الاستعداد لمواجهة ما على الحدود اللبنانية، وترتيبات أخرى في ظل تولي حكومة اليمين المتطرف زمام الحكم في إسرائيل بعد أيام أو أسابيع قليلة، كذلك دفعت تلك العملية العنصري المتطرف الذي يستعد لتولي منصب وزاري لأول مرة في حياته السياسية، نقصد ايتمار بن غفير، للمطالبة بإطلاق سياسة الاغتيالات ضد القادة الفلسطينيين مجدداً.
أي أن العملية باختصار أحدثت رد فعل أمنياً بالدرجة الأولى، غير عادي، على أعلى المستويات في قيادة الجيش الإسرائيلي، ولا يعود ذلك بتقديرنا إلى ما أوقعته فقط من خسائر بشرية، حيث لقي شاب في السادسة عشرة من عمره مصرعه على الفور، فيما أعلن عن إصابة 19 بجراح متفاوتة، ولكن يبدو بأن لها دلالات أمنية/ فنية، حيث أعلنت إسرائيل عن حشو العبوة بالمسامير، والأدوات الحادة، أي أنها عبوة مصنعة محلياً، ويتم تفجيرها عن بعد بوساطة استخدام الموبايل الشخصي، كذلك ارتباطاً بالتوقيت الذي وقعت فيه، فهي جاءت أولاً بعد «هدوء نسبي» على جبهات مدن الضفة الغربية، أي نابلس وجنين والخليل، بعد المواجهات الحادة والدامية التي جرت خلال الأشهر الماضية، كذلك بعد فوز اليمين الإسرائيلي وبشكل مريح في انتخابات الكنيست الأخيرة، التي جرت مطلع هذا الشهر، وعشية تشكيل الحكومة السادسة برئاسة بنيامين نتنياهو والتي ستضم اثنين من العنصريين الخطرين جداً، واللذين تعارض حتى أميركا توليهما مناصب وزارية، نقصد ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
هذا يعني بأن عملية القدس، هي رد مبكر على دخول العنصرية /الفاشية، التي ترفع شعارات «الموت للعرب»، للحكومة الإسرائيلية، وهي محاولة للقول علنا بأن الشعب الفلسطيني لا يخشى هؤلاء، بل على العكس، يتحداهم، وسيواصل المقاومة في مواجهتهم، حتى يحقق الحرية والاستقلال، كذلك العملية تعني بأن الجيش الإسرائيلي وخلال علمية «كاسر الأمواج» المستمرة منذ ثمانية أشهر، بشكل متوصل، والتي استخدم فيها نصف قواته، لم ينجح في وضع حد للمقاومة، ولا حتى بالمدى المنظور، وثالثا، تعلن عملية القدس بأن المقاومة لا تقتصر على جنين ونابلس والخليل، بل هي تحيط بالقدس وتدخلها من كل بواباتها، وهي _أي القدس_ درة تاج الحرية والاستقلال، حيث لا يتحقق الهدف الوطني المنشود دونها، ولا بأي شكل من الأشكال.
أي أن الشعب الفلسطيني حين يمارس المقاومة فإنه يطلقها كحلقات متواصلة، ما أن تهدأ في مكان، حتى تنطلق في مكان آخر، وحين تتوقف عن استخدام أداة أو وسيلة، فإنما لتستخدم أداة أخرى ووسيلة ثانية، وهنا يمكن القول بأن ما أبداه الجيش الإسرائيلي من رد فعل خاص على هذه العملية، يجيء ارتباطاً بكون المقاومة الفلسطينية لم تستخدم العبوات الناسفة منذ العام 2016، اعتمدت خلال السنوات تلك على الطعن بالسكاكين، وعلى عمليات الدهس، وأخيرا، أي خلال هذا العام، على المبادرات الفردية باستخدام السلاح الناري، في عمليات شبه استشهادية، إضافة بالطبع إلى تصدي المقاومين على شكل مجموعات، عرين الأسود في نابلس، عش الدبابير في جنين، وكتائب الأسود في الخليل لاجتياحات الجيش والمستوطنين، أما هذه العملية فهي تحافظ على حياة المقاومين، حيث ينفذون عمليتهم ويحققون الهدف، وهم بعيدون عن موقع العملية، فتبقى فرصة خروجهم أحياء كبيرة، كما أنهم يستخدمون عبوات مصنوعة محلياً، كما كانت قنابل المولوتوف من قبل.
يبتكر الشعب الفلسطيني على طريق حريته واستقلاله كل يوم ما هو جديد من أدوات وأشكال المقاومة، والأهم أنه لا يخشى العنصرية الإسرائيلية، كما أنه لا يجبن بسبب انهيار جدار الصد العربي، أو في ظل الانحدار الأخلاقي الدولي، الذي لا يمنح شعبنا عشر ما منحه خلال أقل من عام لأوكرانيا_على سبيل المثال، من دعم سياسي وعسكري ومالي، ولم يضغط على إسرائيل عشر الضغط الذي مارسه على روسيا، وإلا لكان على الأقل قد فرض على إسرائيل الالتزام باتفاقية إعلان المبادئ التي وقعتها بنفسها عام 1993، واتفاقية الحل المرحلي التي وقعتها عام 1994، فضلاً عن القرارات الدولية والقانون الدولي.
مع كل هذا فإن عملية القدس تعتبر بمثابة جرس إنذار أخير لإسرائيل، يمكن أن تمنح بنيامين نتنياهو فرصة دخول تاريخ بلاده كرجل دولة تاريخي صنع لها السلام، وجنبها الدخول في نفق مظلم إجباري، لن تجد نفسها عبره في مواجهة الشعب الفلسطيني الشجاع فقط، بل في مواجهة الدنيا كلها، كدولة فصل عنصري، وكدولة إرهاب دولة، حيث أن قضية فلسطين تعتبر خارج إطار معادلة الصراع الدولي، كما كان حال جنوب أفريقيا التي تحررت من نظام الفصل العنصري، رغم أنه كان محسوبا على دول الغرب، ولعل نتنياهو الذي بيده اليوم ورقة قوة تتمثل في حكومة مستقرة، يمكنه أن يتجنب تحكم سموترتيش وبن غفير في مقاليدها، لأنه ليس لهما خيار سواه، ولأن الائتلاف فاز بأغلبية مريحة، بما يمكنه من تشكيل حكومة مستقرة لأربع سنوات قادمة، هي على كل حال آخر سنواته في الحكم.
ونتنياهو لديه خبرة ربع قرن في سدة الحكم، يعرف الشعب الفلسطيني جيدا، وهو اليوم لم يعد بحاجة للشعارات، بل عليه أن يفكر فقط فيما سيتركه وراءه بعد أن يمضي بعد سنوات قليلة، فهل يعني ذلك بأنه سيكتفي بتجنب المواجهة المفتوحة مع البيت الأبيض بمنح بن غفير وزارة الزراعة وسموترتيش وزارة المالية، أم أنه سيكون في ولايته السادسة مختلفا عن كل ولاياته السابقة؟ قد يبدو الأمر خارج نطاق التصور، لكن من كان يتصور أن يذهب أيهود اولمرت، بعد أن كان عمدة القدس المتطرف، بعيداً في البحث عن الحل مع الرئيس محمود عباس، ومن كان يتخيل أن ينسحب اريئيل شارون، الذي كان تسبب في انتفاضة العام 2000 باقتحامه للقدس، من غزة من جانب واحد، بل من كان يظن بأن اسحق رابين من قبلهما والذي قاد عملية احتلال القدس عام 67، سيوقع بيده على اتفاق إعلان المبادئ، ويفتح الباب لإقامة أول سلطة وطنية فلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية، لكن كل هذا حدث على وقع المقاومة الفلسطينية وثورتها المعاصرة، التي ما زالت تقدم كل يوم ما هو جديد ومبتكر، على طريق الحرية والاستقلال، وما زالت تؤكد على مضيها حتى تحقيق أهدافها المشروعة، مهما كانت التحديات ومهما بلغت التضحيات.