رغم أن بنيامين نتنياهو لم يتوصل بعد للتشكيلة النهائية لحكومته السادسة، ورغم التقدم الذي حدث أول من أمس في مباحثاته مع "الصهيونية الدينية"، باتفاق مضمونه تداول وزارتي المالية والداخلية ما بين بتسلئيل سموتريتش وآرييه درعي، إلا أن معارضة داخلية لحكومته قد بدأت مبكراً، ولم تقتصر الانتقادات الموجهة لحكومته على المعارضة التقليدية أو الطبيعية، ممثلة بكل من يائير لابيد رئيس الحكومة المنتهية ولايته، وبيني غانتس وزير الدفاع وحسب، بل اعتبر عدد كبير من المحللين والخبراء الإسرائيليين أن الخطر على إسرائيل من تشكيل أكثر حكومة يمينية ومتطرفة في تاريخ إسرائيل، لا يقتصر على الجانب الفلسطيني، بل يتعدى ذلك ليصبح خطراً وجودياً على إسرائيل نفسها.
على أي حال من حيث الحلول المبتكرة التي يلجأ لها نتنياهو على طريق التشكيل الحكومي، لا يعتبر التداول في المسؤولية شيئاً جديداً، ولا حتى غريباً في عرف السياسة الإسرائيلية، وأن يتم توسيع الحكومة لتضم ما يتجاوز الثلاثين وزيراً، فهذا أمر قد سبق وأن تم العمل به، كذلك أن يتم تداول المقاعد الرسمية، فقد حدث هذا منذ ثمانينات القرن الماضي، حيت تشكلت ما سُميت بحكومة الرأسين بين كل من اسحق شامير وشمعون بيريس، حيث تم تقسيم فترة ولاية الحكومة وهي أربع سنوات، ما بين الرجلين، بحيث يتولى كل منهما رئاسة الحكومة مدة عامين يكون الآخر خلالها وزيراً للخارجية، بالتناوب، وآخرها كان التداول في رئاسة الحكومة بين نفتالي بينيت ويائير لابيد الحالية، وحتى نتنياهو كان قد عقد اتفاقاً قبل عامين مع غانتس، على تداول رئاسة الحكومة بينهما، لكنه لم يلتزم به كعادته، لكن أن يتم سحب الحل نفسه على الوزارات، فهذه بدعة جديدة، نقصد الاتفاق الأولي على تقاسم تبادل مسؤولية وزارتي المالية والداخلية بين سموتريتش ودرعي.
ورغم أن نتنياهو_كما أسلفنا_ لم ينته من هندسة التشكيل الحكومي بشكل نهائي بعد، إلا أن ردود الفعل على ما حققه حتى اللحظة، يُعتبر شيئاً لافتاً للانتباه، فهو أولاً بدأ بالاتفاق مع ايتمار بن غفير، ومنحه كل ما طلبه، أي وزارة الأمن الداخلي، مع صلاحيات واسعة، شملت لأول مرة المسؤولية عن حرس الحدود، كذلك تراجع عن القرار الإسرائيلي الذي مضى عليه نحو عشرين عاماً، والخاص بالانسحاب من مدن شمال الضفة، وعملياً سلمه كل الصلاحيات الخاصة بالوجود الاحتلالي الإسرائيلي في أرض دولة فلسطين، بما يخص الشرطة، وحرس الحدود، والجيش والمستوطنين، وهذا ما ألقى حجراً كبيراً في مياه المعارضة الداخلية الراكدة.
أي أن ما كان يثير الخارج، الفلسطيني، العربي وحتى الأميركي من مجرد دخول بن غفير للحكومة، نظراً لما هو معروف عنه من تطرف، ومن إرث سياسي مبني على اقتحامات المسجد الأقصى، بات يثير الداخل الإسرائيلي نفسه، نظراً لما واصل الرجل طرحه من شعارات عنصرية، ضد العرب خاصة، ومن ثم ضد اليسار والمعارضة الإسرائيلية، لذلك من الطبيعي أن تبدأ المعارضة السياسية بتوجيه الانتقادات لمنحه وزارة الأمن الداخلي، وهي وزارة يفترض فيها أن تسعى لتهدئة الأمور في الضفة الفلسطينية، وتحقيق الأمن والاستقرار داخل دولة إسرائيل، لا أن تفعل العكس.
وقد وصفه بعض المحللين الإسرائيليين بأنه رجل عصابات، لذا سيتصرف وفق هذه الصفة، وهو عملياً سيؤجج ناراً مشتعلة أصلاً في القدس والضفة الغربية، وهو فعلاً سيدفع الأمور في القدس للدخول في حرب دينية، كما أنه سيفتح كل الأبواب أمام حرب حقيقية طاحنة في كل مدن الضفة الغربية.
وقبل أن يتولى الرجل مهام منصبه رسمياً، بدأ في التدخل بأمور الجيش، الذي حرصت إسرائيل منذ تأسيسها، على أن يكون خارج حلبة الصراع السياسي، وقد تورط بن غفير فعلاً يوم الثلاثاء الماضي بتوجيه تحذير لقادة الجيش من عواقب توقيف جنديين اعتديا على ناشط يساري إسرائيلي جنوب مدينة الخليل قبل أيام، وذلك بقرار من رئيس الأركان افيف كوخافي، لذا فقد رد عليه غادي ايزنكوت رئيس هيئة الأركان السابق، والنائب بالكنيست الحالي عن حزب بيني غانتس، بالقول بأن منح بن غفير صلاحيات تشمل شرطة حرس الحدود من شأنه أن يضر بالأمن الإسرائيلي، واعتبر ايزنكوت أن سلوك ائتلاف الحكومة المستقبلية من شأنه أن يؤدي إلى تفكيك الجيش عبر تقويض سلطة قيادته.
فيما تطرق لابيد لذلك الموقف مشيراً إلى أن بن غفير المدان بدعم الإرهاب، يبدأ مهمته بالقتال ضد الجيش الإسرائيلي، كما أن ضابطاً سابقاً في الشرطة الإسرائيلية أشار إلى أن بن غفير سيحول مفوض الشرطة إلى دمية بيده، ذلك أنه مجرد تدخل السياسة في الاعتبارات العملياتية سيكون الأمر مخيفاً، متابعاً بأن بن غفير شخص متطرف، وحيث أن الشرطة ضعيفة أصلاً بفضل عشرين سنة من سياسة اتبعها رئيس الحكومة، في إشارة إلى نتنياهو، فإن النتيجة ستكون كارثية. أما كوخافي رئيس هيئة الأركان الذي تقترب فترته في المنصب من الانتهاء فرد على بن غفير قائلاً، بأنه لن يسمح لأي سياسي من اليمين أو من اليسار باستخدام الجيش ضمن أجندته السياسية، وبعد كل هذا اللغط، اضطر نتنياهو للتدخل قائلاً، بأن الجيش إنما هو جيش الدولة والشعب داعياً الجميع إلى تركه خارج دائرة الجدل السياسي.
مجمل القول، بأن بن غفير، لا ينتظر فقط بضعة أيام حتى يتولى مهام منصبه رسمياً، ليسارع إلى تنفيذ كل ما بداخله من كراهية وعداء لكل من هو غير يهودي أولاً، وكل من هو غير متشدد أو متطرف لليهودية الصهيونية كما يفهما ويريدها ثانياً، ومعه ومع معظم أعضاء الحكومة الإسرائيلية قيد التشكيل، بالنظر إلى كل مكوناتها، فإنه يمكن القول بأن إسرائيل تذهب إلى حدود بعيده من التطرف كحكومة ودولة، وهي ستدخل في حرب مع الجار الفلسطيني، ومع الجوار والمحيط الإقليمي وحتى المعارضة الداخلية، من أجل تشريع كل هذا التطرف والعنصرية عبر قوانين وتشريعات، ولن تكتفي بسن القوانين الخاصة بشرعنة الاستيطان الخارج عن القانون الدولي أصلاً، ولا بإقرار عقوبة الإعدام بحق المقاومين الفلسطينيين، رغم أن عمليات الإعدام الميداني تقوم بنفس المهمة الفاشية التي يروج لها بن غفير، وستجد إسرائيل مع هذه الحكومة نفسها منبوذة أكثر إقليمياً ودولياً، ولهذا فهي خطر على إسرائيل نفسها، كما هي خطر على جيرانها والعالم بأسره، وكما وُصف الشاعر العربي قديماً، بتأبَّط شراً، حين امتشق سكينه وخرج ليقتل الآخرين، كذلك هي إسرائيل، كلما امتشقت القوة العسكرية وواجهت بها الآخرين، تكون قد تأبطت شراً، لن يقتصر على غيرها، بل سيرتد إلى نحرها هي أيضاً.