صدى نيوز- رغم الأزمة الصامتة بين ألمانيا وقطر، أعلنت الدوحة عن اتفاق بعيد المدى لتوريد الغاز المسال إلى أكبر اقتصادات أوروبا، في سياق واقع جيوسياسي عالمي جديد، تسعى فيه أوروبا للاستغناء نهائيا عن الغاز الروسي.

وجاء إعلان الدوحة على لسان وزيرها للطاقة سعد بن شريدة الكعبي والذي أكد أن بلاده ستمد ألمانيا بمليوني طن من الغاز المسال سنويا على مدى لا يقل عن 15 عاما انطلاقا من عام 2026، وذكر في السياق نفسه أنّ شركة "قطر للطاقة" لا تزال تبحث لبلورة اتفاقيات أخرى محتملة مع برلين.

وقد تطلب الاتفاق مخاضا عسيرا دام عدة أشهر من المفاوضات حاولت خلالها برلين تجنّب الاتفاقيات طويلة الأمد التي تصر عليها قطر في قطاع الغاز. وفي نوع من شد الحبل والضغط على برلين، أوضح الكعبي، الذي يشغل أيضا منصب الرئيس التنفيذي لشركة "قطر للطاقة"، أن الطلب على الغاز القطري من قبل آسيا وأوروبا كبير إلى حد أنه ليس لديه عدد كافٍ من المفاوضين لمناقشة الصفقات معهم. وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن ألمانيا هي التي تحتاج قطر وليس العكس.

ورغم تبادل المجاملات الدبلوماسية بين الطرفين بمناسبة إبرام الاتفاق، إلا أن ذلك لم يكن ليخفي توتر العلاقات بينهما. فالوزير الكعبي أدلى بتصريحات لصحيفة "بيلد" الشعبية الألمانية الواسعة الانتشار (29 نوفمبر/ تشرين الثاني)، انتقد فيها بشدة حملة التنديد الغربية والألمانية تحديدا، بسياسة التمييز التي تنتهجها قطر ضد الأقليات الجنسية. وقال الكعبي "الغرب يدعونا كقطريين كي نتغير وأننا بحاجة إلى تغيير ديننا ومعتقداتنا والقيام بما يعتقدون أنه صحيح: أي القبول بمجتمع الميم بالكامل. أين حقي الإنساني في اختيار ما أريده لديني، وبلدي، وأولادي وأسرتي؟". وتابع الكعبي: "يريد الغرب أن يملي ما يريد" على قطر.

تصريحات الوزير القطري تؤكد أن العلاقات بين برلين والدوحة توجد فعلا على صفيح ساخن، ما يضع ألمانيا أمام معضلة كلاسيكية بين الدفاع عن قيم حقوق الإنسان من جهة ومصالحها الاقتصادية من جهة أخرى.

الغاز ـ كيف غيرت حرب أوكرانيا كل شيء؟
غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/ شباط الماضي قلب خارطة سوق الغاز العالمية رأسا على عقب، ما زاد الضغوطات على ألمانيا للبحث عن مصادر طاقة جديدة لتعويض الغاز الروسي، الذي كانت تعتمد عليه بشكل كبير. غير أن الصفقة القطرية لن تنفع البلاد خلال فصل الشتاء الحالي. وهكذا زادت حاجة ألمانيا، كما أوروبا، من الغاز الطبيعي إلى مستويات غير مسبوقة. وكانت القارة الأوروبية تنظر إلى الولايات المتحدة كبديل لسد احتياجاتها، وهي التي تعتبر حاليا أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، بيد أنها ليست في وضع يسمح لها بإنقاذ أوروبا؛ رغم ازدهار صناعة الغاز المسال. ولا يوجد حاليا بلد منتج للغاز يمكنه تعويض حصة الغاز الروسي في السوق الأوروبية.
بالنسبة للصفقة الألمانية القطرية فستتولى الشركة الأمريكية "كونوكو فيليبس"، شريكة "قطر للطاقة"، توريد الغاز من مشروعي حقل الشمال الشرقي وحقل الشمال الجنوبي، اعتبارا من 2026 إلى محطة "برونزبوتل" للغاز المسال التي يتم تطويرها حاليا في شمال ألمانيا. وتتزامن هذه الصفقة مع اتفاق آخر أعلن عنه لتزويد الصين بأربعة ملايين طن من الغاز المسال سنويا على مدى 27 عاما. ويذكر أن الدول الأسيوية خصوصا الصين واليابان وكوريا الجنوبية، تمثل السوق الرئيسية للغاز القطري الذي تسعى ألمانيا ودول أوروبية للحصول على حصة منه. وبهذا الصدد كتب موقع إذاعة "دويتشلاندفونك" معلقا (29 نوفمبر/ تشرين الثاني): "الأمر لا يتعلق بصفقة كبيرة (..) الأمر أشبه بقطرة في المحيط. لأن سريان مفعول الاتفاق مع قطر سيبدأ فقط اعتبارًا من عام 2026، وبالتالي، بالنسبة لأزمة العرض الحالية؛ فلن يكون للصفقة التجارية أية فائدة تذكر حاليا".

قطر في استراتيجية ألمانيا لتنويع مصادر الطاق
ترى ألمانيا في الغاز القطري أداة من أدوات التخلص من التبعية لروسيا، رغم الانتقادات الحقوقية الموجهة للدولة الخليجية. وبهذا الصدد اعتبر المستشار أولاف شولتس (30 نوفمبر/ تشرين الثاني) أن الاتفاقية مع قطر مهمة في استراتيجية إمدادات الطاقة المستقبلية لبلاده. واستطرد موضحا "سوف نعمل بوجه عام من أجل أن يكون لدينا الكثير جدا من الدول المختلفة التي تضمن إمداداتنا من الطاقة". ولمواكبة هذه الاستراتيجية ستعمل ألمانياعلى إعداد بنية تحتية لاستيراد الغاز على ساحل بحر الشمال وبحر البلطيق وستبرم عقود توريد مع "شركاء جدد"، وفق شولتس، الذي أعرب عن "سعادته الشديدة" بالاتفاق مع قطر.

حماس المستشار شولتس لا يتقاسمه معه زعيم المعارضة المحافظة فريدريش ميرتس (زعيم التكتل المسيحي في البوندستاغ)، الذي أبدى تحفظه تجاه الصفقة مع قطر وقال بهذا الشأن (30 نوفمبر/ تشرين الثاني): "نحن في حاجة إلى عقود توريد بمقدار أكبر بكثير" معتبرا أن كميات الغاز المنتظرة من قطر ستكون متأخرة للغاية ولن تحل أيا من المشاكل الحالية. وأعرب ميرتس أيضا عن اعتقاده بأن العقد يتعلق بكمية صغيرة لدرجة "أنها لا تلفت الانتباه بالأساس".

يذكر أيضا أن الكسندر دروبينت، رئيس المجموعة البرلمانية للحزب المسيحي البافاري المعارض، ذهب في نفس إتجاه ميرتس وأعرب عن استغرابه من الصفقة مع قطر بل واختيار شركة أمريكية لتكون شريكا لتوصيل الغاز إلى ألمانيا، غير أنه استطرد موضحا "مع ذلك، فكل مساهمة بهذا الشأن ستساعد بالطبع في المستقبل".

صحيفة "تاغسشبيغل" البرلينية (29 نوفمبر/ تشرين الثاني) نبهت إلى أن الصفقة لا تغطي سوى "كمية تعادل 2.7 مليار متر مكعب من الغاز سيتم إنزالها سنويًا، فيما بلغ استهلاك الغاز في ألمانيا في عام 2021 ما يزيد قليلاً عن 90 مليار متر مكعب. غير أن وزير الاقتصاد روبرت هابيك (29 نوفمبر/ تشرين الثاني)، عبّر بدوره عن رضاه بشأن مدة الاتفاق وقال: "15 عاما أمر رائع"، مشيرا إلى خطة برلين للوصول إلى هدف الحياد الكربوني في أفق عام 2045، وهو ما يحد مستقبلا من كميات الغاز التي ستستوردها في المستقبل. وأضاف أنه سيتعين على ألمانيا خفض استهلاكها من الغاز اعتبارا من منتصف 2030 إذا كانت تريد تحقيق هدفها الطموح.
 

بين حقوق "مجتمع الميم" والحاجة للغاز القطري
أثار الجدل بشأن حقوق الإنسان المرافق لمونديال قطر تفاعلات واسعة، طبعتها الحدة واختلاف وجهات النظر بين المدافع عن خصال التعدد وحقوق الإنسان، التي تقوم عليها منظومة القيم الغربية وبين من رأى في ذلك استكبارا من الغرب تجاه دول عربية مسلمة مستضيفة لتظاهرة رياضية عالمية.

واتخذ هذا الجدل بعدا عالميا بعد المبادرة الاحتجاجية للاعبي المنتخب الألماني، الذين وضعوا أيديهم على أفواههم احتجاجا ضد الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، الذي حظر ارتداء اللاعبين لشارة "حب واحد" المؤيدة لمجتمع الميم، باعتبار أن القوانين القطرية لا تزال تُجرم المثلية الجنسية وتعاقبها. المبادرة كان هدفها إثارة الانتباه إلى حقوق الأقليات بمختلف أطيافها، سواء كانت أقليات جنسية أو غيرها، بمن فيهم العمال الأجانب الذين ساهموا في بناء المنشئات الرياضية للمونديال.

غير أن ردود الفعل في قطر والعالم العربي اعتبرت في الغالب الانتقادات الغربية استعلاءً ثقافيا إن لم نقل "عنصرية". ألمانيا التي لعبت دورا طلائعيا في هذه الحركة الاحتجاجية، وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، لأنها في الوقت نفسه مضطرة للتعامل مع الدولة المضيفة للمونديال، قطر، لأنها في حاجة إلى غازها أكثر من أي وقت مضى بسبب تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا. وعمّا إذا كانت هناك ازدواجية في طلب ألمانيا للغاز القطري في الوقت الذي توجه فيه انتقادا سياسيا للدوحة، قال الكعبي إنه بلاده تبيع الغاز للجميع وتبتعد عن خلط السياسة بالاقتصاد، موضحا أن بلاده تشتري مثلا المنتج الألماني بغض النظر عن الموقف السياسي لألمانيا، إذ تعتمد على الفصل الكامل بين الاقتصاد والسياسة.

وبهذا الصدد كتبت صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ" (30 نوفمبر/ تشرين الثاني) معلقة: "ليس من قبيل المصادفة أن تعلن قطر عن الصفقة الآن، بعد خمسة أيام من حمل وزيرة الداخلية نانسي فيزر شارة (حب واحد) قبيل المباراة الأولى للمنتخب الألماني في قطر. لا يمكن أن تكون حقوق الإنسان بهذه الأهمية بالنسبة لك، وإلا فلا يمكن لك التفكير في تخزين غازنا على مدى 15 عامًا. هذه هي رسالة الصفقة. القطريون ليسوا مخطئين. عليك أن تقرر بين العمل من أجل حقوق الأقليات والسياسة الواقعية: إما "حب واحد" أو أمن الطاقة. ومن المحال الحصول عليهما معا. لذلك يمكن أن تكون الصفقة أيضًا مناسبة لإعادة توجيه السياسة الخارجية الألمانية المتشددة في بعض الأحيان".

وتابعت الصحيفة السويسرية: "إذا كانت ألمانيا ستحصل فقط على الغاز من البلدان التي تؤمن بروح شارة "حب واحد"، فإن الأنوار ستنطفئ بسرعة في هذا البلد. لذا من الجيد أن يتدفق الغاز القطري المسال إلى برونسبوتل في غضون أربع سنوات. لا توجد بدائل واقعية. إن إلقاء نظرة على قائمة البلدان التي لديها أكبر عشرة احتياطيات من الغاز الطبيعي في العالم تظهر أنه، باستثناء الولايات المتحدة، لا توجد بينها ديمقراطية مستقرة واحدة".