أبلغت وزارة الثقافة مركز خليل السكاكيني بقرار استلامها مبنى المركز بصفتها المالك الرسمي له، وذلك بالتزامن مع انتهاء عقد الاستخدام في نهاية العام 2022، وفي الوقت ذاته وقعت وزارة الثقافة عقد تأجير المبنى مع اتحاد الكتاب، ابتداءً من تاريخ الانتهاء، وأبلغت الوزارة إدارة مركز خليل السكاكيني أنه بإمكانها استخدام جزء سفلي من المبنى لمدة سنة.
للوهلة الأولى يعتقد المراقب أن هذه العملية عادية، من زاوية حق المالك باستلام المقر بعد نهاية مدة الاستخدام، وتأجيره لطرف آخر. ولكن في الواقع، لا ينظر لقرار وزارة الثقافة من زاوية واحدة فقط، زاوية مالك عقار ومستأجر ومدة صلاحية الاستخدام المنتهية. مركز خليل السكاكيني كان جزءاً من بنية تحتية لثقافة فلسطينية سعت أول سلطة فلسطينية إلى تأسيسها بعد انسحاب دولة الاحتلال من المدن الفلسطينية. وكان جزءاً من مشروع ثقافي وطني هدفه التحرر من قبضة الاحتلال وتحويل الثقافة الى رافعة استنهاض وبناء.
قرار وزارة الثقافة يعني عملياً وضع نهاية كئيبة لمركز ثقافي فلسطيني ارتبط باسم المربي والمثقف الفلسطيني خليل السكاكيني، أحد أهم رموز التنوير والحداثة والتحرر في فلسطين، ويعني إغلاق وتعطيل رافد من روافد الثقافة الفلسطينية. لا أحد يتخيل ان وزارة الثقافة المسؤولة عن تطوير ودعم واحتضان المراكز الثقافية، تسعى إلى إغلاق هذا المركز، وتحويل وظيفته الثقافية الى وظيفة إدارية، والانتقال من دور ترويج الثقافة وتنمية الفنون والمهارات الابداعية ورعاية المواهب الجديدة، الى دور إداري بيروقراطي وعلاقات عامة، في الوقت الذي تملك فيه وزارة الثقافة عمارة كاملة كمقر لها، ويوجد مقر خاص باتحاد الكتاب. لا أحد يتخيل بأن يافطة خليل السكاكيني ستزال وتستبدل باسم مكتب وزارة الثقافة ومكتب لاتحاد الكتاب. أو بقاء اسم خليل السكاكيني شكلاً وإزالة وإبطال المضمون والدور الثقافي للمركز. لا أحد يستطيع تجاهل ان هذا المركز جرى تقديمه كمشروع ثقافي عام تحت مسمى خليل السكاكيني وعلى هدى افكاره التربوية التنويرية؟ وأن الدعم والتغطية المالية من الدول المانحة جاء على هذا الأساس فقط.
قد يقول البعض إن وزارة الثقافة سمحت سابقاً بأن تتشارك مجلة الكرمل ورئيس تحريرها الشاعر محمود درويش مقر خليل السكاكيني، وبالمثل يجوز للوزارة أن تسمح راهناً لاتحاد الكتاب ولنفسها بالوجود داخل المقر. ثمة انسجام في المرة الاولى، كون مجلة الكرمل كانت منبراً للثقافة والمثقفين، وقد أغنى الشاعر ومجلة الكرمل بوجودهما وعلاقاتهما هذا الرافد الثقافي، حين أنشأ جسراً لعبور المثقفين العرب والعالميين الملتزمين بقضايا الشعوب الى فلسطين.
يبقى سؤال، هل يجوز إطفاء مركز خليل السكاكيني الذي رفد الثقافة خلال ربع قرن ويزيد؟ للبت في مشروعية أو عدم مشروعية قرار وزارة الثقافة، يلزم العودة الى أبرز الادوار التي اضطلع بها المركز: حدد المركز أربعة برامج وعمل على تنفيذها وهي: برنامج الأرض، وبرنامج الفنون البصرية، وبرنامج الأدب، وبرنامج الشراكات والاستضافات. وقدم المركز منذ العام 2020، 6 معارض فنية 3 منها للفنون البصرية -برغم كورونا -وعمل مع 200 مثقف وفنان، وجرى تنظيم فعالية ثقافية، والعمل مع 50 مؤسسة شبابية، وشمل التفاعل الثقافي والفني شريحة تقدر بـ 6 آلاف شخص. وأنشأ المركز مساحة سوق زراعة عضوية لترويج منتجات المزارعين تجسيداً لسياسة الاعتماد على الذات ومقاطعة سلع دولة الاحتلال. وأسس المركز نادي كتاب السكاكيني، ومختبراً للمسرح، وأطلق حملة التمويل الجماعي لدعم برامج المركز. فضلاً عن عروض الموسيقى والامسيات الشعرية، وإطلاق الروايات والكتب وتنظيم عروض مسرحية. ومن أبرز نشاطاته "معرض المعرض" حول المعارض العربية التي أقيمت في مدينة القدس في ثلاثينات القرن العشرين وجلبت معها حِرفاً وصناعات من أنحاء العالم العربي. ونظم المركز حفل الموسيقى لطلبة من مختلف المستويات والاعمار الذين عزفوا مقطوعات تعلموها استنادا لنظريات الموسيقى والتأليف، على آلة التشيلو والبيانو.
والمركز يستلهم مبادئ خليل السكاكيني وهي: التأمل، والتجربة، والمجاورة، ويعمل على هديها في أنشطته مع الأطفال لتكون مرافقُه وحدائقه مساحة يشغلها الأطفال والفئات الشابة من خلال التعلم والإبداع وطرح الاسئلة والتفاعل مع المجتمع. وغير ذلك من نشاطات وبرامج عديدة شغلها المركز والتي أقل ما يقال عنها أنها جزء من ثقافة متحررة ونقدية منفتحة داخلياً وخارجياً.
بفعل الدور والنشاط أصبح مركز خليل السكاكيني جزءاً من حياة الكثيرين في مدينة رام الله، مئات وآلاف ممن حضروا الفعاليات والانشطة يشهدوا على ذلك، ولا أعتقد قبولهم بوضع هذه النهاية المأساوية لعلاقتهم الحميمة مع المركز ورمزه الأول خليل السكاكيني، ورمزه الثاني محمود درويش. الموضوع ليس حقوقياً ولا يقتصر البت في مصيره على وزارة الثقافة. مصير مركز خليل السكاكيني شأن عام يخص نخب الفن والثقافة الفلسطينية في الوطن وخارجه وشأن جماهير الفن والثقافة وكل الذين شاركوا في أنشطة المركز، وشأن كل المدافعين عن التراث الوطني والرموز الثقافية.
وكما جرت العادة بتجديد العقد بعد انتهاء مدته انطلاقاً من الحرص على تنمية الثقافة، مطلوب الآن تجديد العقد لمركز خليل السكاكيني، والتوقف عند ضرورة دعمه وتطويره ودعم وتطوير المراكز الثقافية الأخرى والدفاع عنها في لحظة الهجوم على الثقافة والتضييق عليها من قبل قوى التعصب والمحافظة والانغلاق. لا شك في أن مصير مركز خليل السكاكيني بحاجة الى تدخل المستوى السياسي للحيلولة دون تنفيذ قرار وزارة الثقافة، وقبل كل ذلك بحاجة الى تدخل المراكز الثقافية والاكاديمية وتدخل التنظيمات السياسية وامتدادها في اتحاد الكتاب من أجل التجديد لمركز خليل السكاكيني.