أستَذكرنا يوم أول أمس ١٢/٨  وما زلنا بفخر  الذكرى ٣٥ للأنتفاضة الشعبية الكبرى بشهدائها واسراها وجرحاها والتي انطلقت تحت شعار " لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"  بفعل عفوي جماهيري خالص ضد استمرار القهر والأضطهاد ومن أجل دحر الأحتلال نحو الوصول الى الحرية والأستقلال الوطني . لقد شَكلت انتفاضتنا في سياق تراكم مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني الداعم الهام لمنظمة التحرير الفلسطينية كعنوان لوحدانية التمثيل الشرعي لشعبنا بعد مرحلة الخروج القصري لقوات الثورة من بيروت. 
كما مثلت هذه الأنتفاضة بما شكلته من أهمية مرحلة من المقاومة المتجددة للحركة الوطنية الفلسطينية داخل الوطن منذ بداية الأحتلال وتكاملاً مع نضال ثورتنا ومسيرتها منذ انطلاقتها ، وفي تثبيت رواية شعبنا في مواجهة رواية الأحتلال وسياساته الاستعمارية الاجرامية ، وذلك من خلال العمل الكفاحي الشعبي المُبدع الذي أظهر أهمية المظاهرة والأضراب والعصيان والأشتباك ، اسطورة الحجر والعجل والمقلاع والبيان والشعار والمولوتوف في مقاومة الدبابة وتكسير العظام . انتفاضة تجلت فيها ارادة شعبنا في أبهى صور المقاومة الشعبية الجماهيرية الواسعة والألتفاف حول القيادة الوطنية الموحدة بأشكال العمل التنظيمي الموحد بين كافة مكونات العمل الوطني بعيداً عن الفئوية والمناكفات والأستئثار ، في كل حارة ومخيم وقرية ومدينة لتعكس صورة الأنتماء الوطني كواجب طوعي والأصرار على دحر الأحتلال البشع ، والتمسك بمنظمة التحرير في مواجهة محاولات خلق البدائل  .
كان كفاح شعبي جماهيري موحد تحت راية واحدة فقط هي رايتنا الفلسطينية بألونها الأربعة ، أنتفاضة مجيدة وضعت الأحتلال 
الفاشي أمام العالم في صورة الإرهابي العاجز . تلك الانتفاضة التي كان يجب أن تستمر وتتصاعد  لتحصد الهدف السياسي ، لكنه التاريخ الذي يحمل المتغيرات دائماً أو المفاجأت احياناً أخرى .

لقد جاء اندلاع الأنتفاضة في ظروف سياسية صعبة مع تضييق بعض الأنظمة الدولية والعربية على قيادة منظمة التحرير وتوقف العمليات عبر الحدود مع فلسطين وبعد سنوات قليلة من اجتياح لبنان عام 1982 وخروج القيادة الفلسطينية إلى تونس ودول عربية أخرى تشتت بها قوات ثورتنا بالمنافي .

لقد كان من أبرز النتائج للانتفاضة عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، فضلا عن إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية ودورها في المحافل الدولية بدعم كامل من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية داخل الوطن .

وفي ظلها وبتاريخ ١٢ تشرين الثاني ١٩٨٨ عَقد المجلس الوطني الفلسطيني بحضور عدد من الاخوة من داخل الوطن جلستة بالجزائر التي أُعلن فيها "وثيقة الاستقلال" والبرنامج السياسي لتمكين الدولة الفلسطينية المستقبلية من ممارسة سلطتها الفعلية على التراب الوطني بما حملته تلك الوثيقة التاريخية من نصوص وكلمات. 

ومن النتائج السياسية السريعة انذاك كان إعلان الأردن الشقيق فك الارتباط القانوني والإداري بين المملكة الأردنية والضفة الغربية المحتلة ، فكانت فرصة لمنظمة التحرير لتعزز وجودها السياسي على مختلف المستويات ، وقدم الأردن الدعم اللازم للمنظمة في سبيل ذلك .

لقد ألحقت الأنتفاضة  أضرار وخسائر بالاقتصاد الإسرائيلي ، بمقابل الفوائد الاقتصادية التي جنتها إسرائيل نتيجة احتلالها لما تبقى من ارضنا التاريخية سنة ١٩٦٧. وتمثل ثمن الانتفاضة المباشر فيما خسرته إسرائيل من هذه الفوائد ، أما الوجه الآخر من هذا الثمن ، فهو تَحول الاحتلال من احتلال "رخيص" إلى احتلال "مُكلف" ، كما أن الإنفاق المباشر على القمع الوحشي للانتفاضة ثم كلفتها الإجمالية في نظر الإسرائيليين أنفسهم شكلان مؤشرين للأضرار التي لحقت بالأقتصاد الإسرائيلي ، وإذا كان مقياس الضرر في المرحلة الأولى هو ما تعرضت له بعض القطاعات الاقتصادية من تراجع ، فإن هذا المقياس قد تغير في مستهل سنة ١٩٨٩ إذ تحول من كساد جزئي إلى حالة عامة من الانكماش الاقتصادي الشبيه بما حدث عشية الاحتلال لهم .

والاَن وبعد ٣١ عاما من المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد بحضور اممي وعربي والذي ساهمت الانتفاضة وبشكل اساس إلى انعقاده بحضور  تحت شعار الأرض مقابل السلام في حينه ، فان إسرائيل كدولة احتلال استعماري عملت على افشال هذا المؤتمر  ، واصرت على الاستمرار في سياساتها المخالفة للقانون الدولي في ضم القدس الشرقية ودون أي نوايا لتفكيك المستوطنات  وسارعت في تصعيد اقامة مستوطنات جديدة بوتيرة عالية ، مع اصرارها على رفض حق تقرير المصير والعودة وعدم تحمّل مسؤولية جريمة النكبة ومصير اللاجئين الماضي والحاضر والمستقبلي والمضي قدما بالسيطرة الفعلية الكاملة على الموارد بل على الارض ، بما يشمل وادي الأردن الذي يشكل 30 في المائة من الضفة الغربية ، باختصار ارادت استدامة الأحتلال الاستيطاني وتنفذ مشروع الحركة الصهيونية العالمية بالسيطرة على كل ارض فلسطين التاريخية ، الأمر الذي لم تتنازل عن السعي لتحقيقه في ربطه مع رؤيتهم الدينية المزعومة ايضا في اي لحظة . 

لقد ذهبت القيادة بعدها  بشكل مفاجئ إلى المفاوضات المباشرة السرية مع دولة الاستعمار الإسرائيلي في ظل تغير النظام الدولي بانهيار المنظومة الاشتراكية ونشؤ احادية القطبية والهيمنة الأمريكية انذاك وواقع حرب الخليج وصولا إلى اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993 التي ادت الى إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية كسبيل من وجهة نظرنا لإقامة الدولة على كافة الأراضي المحتله بما فيها القدس العاصمة وبناء مؤسساتنا ولتمكين شعبنا من الصمود على الارض.

وبينما أجهزت إسرائيل لاحقا على "أوسلو" بإعادة احتلال أراضي السلطة الفلسطينية في الانتفاضة الثانية والتنكر لكافة الاتفاقيات الموقعة لاحقا ، فإن الأمر يبدو اليوم انه مَثلَ وجهة نظرهم من أوسلو وفق ما قد تم التخطيط له أمريكيا واسرائيليا منذ البدايات  للأنهاء التدريجي على تراث منظمة التحرير وقتل عملية السلام برمتها ومنع إقامة الدولة المستقلة ذات السيادة ، وصولا إلى ما نحن عليه الآن من تراكم لسياسات حكوماتهم السابقة جميعها الرافضة للسلام الحقيقي وللعقلية الصهيونية الاستعمارية بما هي عليه في حكومتهم الجديدة الفاشية .
 فالسلام ليس من مصلحة إسرائيل وفق رؤية حكام نظامها الاستعماري ، لأن ما يربط مكونات مجتمعهم المتناقضة الدينية والعرقية والحضارية والاجتماعية هو ضرورة الاحساس الدائم بالخطر الداهم والأجواء المشحونة بالتهديدات ضدهم "كضحية مستهدفة " عبر التاريخ .

 لقد شكلت الأنتفاضة ذاكرة وطنية يمكن تناقلها بافتخار ، واستطاعت أن تحدث فارقا على الأرض، وبالتالي استحضارها من باب الاعتزاز ومحاولة تكرار تجربتها لكن بإبداع  وباشكال تتنوع فيها سبل المقاومة وتطوير ما يجري اليوم من مقاومة سياسية تضمن تقديم دولة الاحتلال أمام العالم كنظام اجرام وفصل عنصري بما في ذلك امام المحاكم الدولية ، ودعوة العالم لمقاطعة الدولة الاستعمارية ، كما وضرورة اعادة صياغة العلاقة مع الاحتلال كشعبٍ مُحتل يخوض كفاح مرحلة التحرر الوطني وفق قرارات مجلسنا المركزي ، إلى جانب تصعيد المقاومة الشعبية لزيادة كلفة الأحتلال ولتتسع جماهيريا حتى الوصول الى دحر الأحتلال وتحقيق ثوابت شعبنا بتقرير المصير وبالحرية والاستقلال الوطني بما يساهم حينها في ضمان الأمن والسلم الدوليبن في ظل المتغيرات المتسارعة دوليا اليوم بما فيها التمدد الروسي نحو منطقة اوراسيا والشرق وتجليات القمة العربية الصينية والأزمات الأوروبية المتصاعدة نتيحة التبعية للولايات المتحدة والمتغيرات الجارية بأمريكيا اللاتينية والتي تؤشر جميعها الى التوجه نحو نظام دولي جديد يساهم في اشاعة العدالة لنا ولغيرنا من الشعوب وينهي الهيمنة الأمريكية البشعة.