بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، الثامن عشر من كانون الأول، سأظل أتذكرُ تعليقاً لأحد المستمعين على كلمةٍ ألقاها خطيبٌ يُجيد فن الخطابة بلغة عربية سليمة في إحدى الندوات، قال ساخراً لمجاوره: "جاء سيبويه!". ابتسم مجاورُهُ وقال: لماذا يتفلسف؟ فليتحدث بالعامية.
لماذا أصبح الحديث بلغتنا العربية مستقبَحاً عند كثيرين من العامة، ومن الأجيال الجديدة أبناء الشبكات الرقمية؟ مَن يتابع ما يكتبه كثيرون على شبكات التواصل الرقمية، يتيقن بأن لغتنا العربية انتقلت من حالة المرض إلى الموت السريري، وأن أنصارها ينقرضون، بعد أن أصبحت الكتابة بالدارجة والعامية هي الطبق الشعبي الرائج! نفَّذت وسائلُ التواصل الرقمية مؤامرة تفكيك اللغة العربية، أفسحتْ المجال لهيمنة الجاهلين بلغتهم والأميين غير الأكْفاء لكي يتولوا المهمة، فغيَّروا حروف اللغة وجملها إلى رقميات بلغات أخرى، صارت لغتُنا العربية ألغازاً وحروفاً وأرقاماً هجينة مشوَّهة!
سأظل أتذكر ما تعرضت له لغتنا العربية منذ قرن مضى، حين عَمِد المخططون والمتآمرون على وحدة العرب إلى تفكيك لغتهم لأنها الرابط المتين لوحدتهم. سخَّروا لهذا الغرضِ مستشرقيهم وباحثيهم، واستقطبوا لهذا الغرض أدباء وكتاباً ومفكرين من أبناء يعرب، أغروهم بالمناصب والمكاسب ليتولوا تفكيك اللغة عبر دعوات تبدو في ظاهرها حضارية، ولكنها تحمل في طياتها مؤامرة خطيرة، مثل تمصير (تمصير وتغريب وتتريك) اللغة العربية، أي تحويلها إلى عامية مصرية وغربية وتركية، بعد نجاح خطة مصطفى كمال أتاتورك في إلغاء الحروف العربية، بينما فشل المشروع في كل بلاد العرب على يد حماة اللغة ممن كشفوا المؤامرة التي نادى بها، المستشرق الألماني الذي تولى إدارة دار الكتب المصرية، ولهلم سبيتا عام 1880م حين طالب المصريين بأن يكتبوا باللهجات العامية المصرية لأنهم فراعنة، وطلب عضوٌ بارز في مَجمع اللغة العربية، هو عبد العزيز فهمي، عام 1943، من مجمع اللغة العربية اعتماد الكتابة باللهجات العامية لصعوبة قواعد الفصحى، وأنها عائق في طريق التقدم والحضارة!
تذكروا، لم تنجح كل تلك المؤامرات خلال القرون السالفة، ليس بفضل قوة اللغة وجمالها وقدسيتها فقط، بل لأن حماتها أدركوا الغاية من هذه المؤامرة، فقد انتفض حماتُها، على رأسهم الأديب مصطفى صادق الرافعي، والشاعر المبدع حافظ إبراهيم صاحب القصيدة المشهورة، (اللغة العربية تتحدث عن نفسها) وتخاطب أبناءها تقول لهم:
فيا ويحكم، أبلى وتبلى محاسني
ومنكم وإن عزَّ الدواءُ أُساتي!
فلا تكلوني للزمانِ فإنني
أخاف عليكم أن تَحينَ وفاتي!
أرى لرجال الغربِ عِزَّاً ومنعةَ
وكم عزَّ أقوامٌ بِعزِّ لغاتِ!
أتَوْا أهلّهم بالمعجزاتِ تفنُّنَا
فيا ليتكم تأتونَ بالكلماتِ!
أما السؤال الجوهري فهو: كيف تُنعشون لغتكم، وتخرجونها من غرفة العناية المركزة؟ يجب أولاً إعادة النظر في طرق تعليم اللغة العربية بتهذيب قواعدها وإقصاء الصعب من مناهج أبنائنا، واختيار العذب الممتع الجاذب، وأن يكون مدرسوها ومحاضروها من محبيها وعاشقيها! لا تنسَوا أن للفنون دوراً بارزاً في حفظ لغتكم، فما أروع القصائد الجميلة والأشعار التي تُلحَّن وتغنى من المطربين الكبار والمطربات، وما أروع زعماء العرب حين كانوا يلتزمون الخطابة بها فهم يزدادون هيبة ورفعة، ولا تنسوا وسائل الإعلام فهي حاضنةُ اللغة وناشرةُ عبيرها!