في هذه الفترة المتخمة بالتطورات والمتغيرات المتسارعة على الساحتين الدولية والإقليمية وتحديدا منها حجم التصعيد العدواني والأستعماري الإسرائيلي القائم والمُقبل ضد شعبنا، فاننا نُحي ذكرى الميلاد المجيد التي تصادف منتصف ليلة اليوم السبت، التي قال اللّه بها في محكم تنزيله بسورة اَل عمران "إِذ قالت الملائِكةُ يا مريَم إِن اللَّه يُبَشرك بِكلمَة مِنهُ أسمُه المسِيح عيسَى أبن مريمَ وجيها في الدُنيا والآخرَة ومِن المُقَربِين".
وهنا نستذكر الرئيس الشهيد أبا عمّار الغائب والخالد فينا حياً برمزيته وما مثلهُ كأب للوطنية الفلسطينية المعاصرة، فهو أول من أطلق تسمية "الثائر الفلسطيني الأول" على السيد المسيح، وهو من كان يردد دائما "المجد لله في الأعالي وعَلى الأرض السلام وبِالناس المسرة"، تلك الكلمات التي وردت في انجيل لوقا من الكتاب المقدس.
فالسيد المسيح كان ثائراً على الظلم والأضطهاد وعلى كهنة المعابد الفريسين من اليهود وعلى الرومان المحتلين لأرضنا، ليحمل حينها رسالة الحرية والمساواة والعدل والسلام التي ما زالت فكرتها خالدة حتى يومنا، وليؤكد لاحقا في صَلبِه وقيامته قوة الحياة على الموت وأنتصار الحق على الظلم.
أما الثائر الشهيد ناصر أبو حميد فقد سار وأشقاؤه الأربعة في طريق الاَلالم من أجل حرية شعبنا منذ البدايات، فكان ناصر المناضل في زمن الأنتفاضة الشعبية الكبرى والمقاتل حامل البندقية الثائرة كأسدٍ مقنع ثم الأسير الذي لم يلين ولم يطلب الرئفة من جلاديه، فكان من أعلام حركتنا الوطنية الأسيرة حتى كان الشهيد الذي بارتقائه ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة بمعتقلات الأحتلال إلى ٢٣٣ نجماً ساطعاً ومشعاً تضيئ في سماء حرية فلسطين.
فأن تكون كنعانياً فلسطينياً، وتولد في مكان بعد مسيرة تَشرد هو ليس منبت أجدادك وأباؤك، ويكون لك ملامح تشبه الأرض التي أنبتتك، فإن نوعاً خاص من الثقافة سيحدد ملامحك ، ونوع الحياة التي ستعيشها، كل ذلك يعني أنك ترسم نموذجاً يوازي الزيتونة وغرزة الثوب وحكايات الأجداد ورواية أصحاب الأرض الأصليين.
فعائلة يوسف النجار والد عيسى أبن مريم شُردت من مدينة الناصرة على أثر جرائم ذبح أطفال فلسطين في ذلك الزمن على يد هيرودس، حيث نزحت العائلة وأستقرت في بيت لحم حيث ولادة الطفل يسوع في مذود بخيمة اللجؤ القصري.
أما الشهيد الأسير ناصر فقد وُلدَ في أحد مخيمات اللجؤ بالنصيرات قبل أن تنتقل عائلته إلى مخيم آخر هو الأمعري بعد محطات لجؤ أخرى بينهما، بعد أن شَردت عصابات الإجرام الصهيونية عائلته من قرية السوافير كما ومليون من أبناء شعبنا من ديارهم الأصلية بفلسطين، والذين نجا جزء منهم من مذابح عدة ارتكبت في زمن جريمة النكبة كما نجا الطفل يسوع من جرائم ذبح الأطفال انذاك قبل الفي عام. يسوع الناصري الذي يصادف ذكرى مولده في مساء هذا اليوم السبت في مغارة كنيسة المهد ، هو اليوم الذي تُحيه البشرية جمعاء بمولد هذا الرسول الفلسطيني الثائر الذي حمل الفكرة التي لم تَمُت، بل انتشرت رسالتها من القدس مهد المسيحين العرب الى أصقاع الأرض كافة بعد صَلبه وصعودِه.
لقد قضى ناصر 34 عاماً هي عمر حياة السيد المسيح ، في سجون الأحتلال الفاشي قبل أن يُنقل إلى عيادة الأعدام البطيئ في سجن الرملة.
وفي آخر رسائله قبل دخوله في غيبوبة على أثر مصارعته مرض السرطان اللئيم، قال الشهيد الأسير ناصر أبو حميد "أنا ذاهب إلى نهاية الطريق، ولكن مُطمئن وواثق بأنني أولاً فلسطيني وأنا أفتخر، تاركًا خلفي شعباً عظيماً لن يَنسى قضيتي وقضية كافة الأسرى…".
لقد كان ما قاله الشهيد البطل ناصر ، كما بدأ يسوع المسيح نفسه يتحدث عن آلاَمه قبل قرنين من الزمن، فشرح بوضوح لأصدقائه، وهو في طريقه إلى بيت المقدس لدخولها، ما ينتظره في المدينة المقدّسة في النهاية . لقد أعلن سرّ موته وقيامته إلى مجده، لقد قال "إن عليه أن يُعاني آلاَماً شَديدة مِن الشيوخ وعُظماء الكَهنة والكَتبة المتغطرسين ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث".
لكن كلامه لم يُفهم انذاك، لأن إيمان التلاميذ كان لا يزال غير ناضج، ومتقيداً للغاية بذهنية ذلك العالم. كان مفهومهم للأنتصار انذاك مفهوماً أرضياً دنيوياً ، ولهذا السبب لم يفهموا لغة الصَلب والموت والقيامة الا بعد حين.
لقد كان إصرار الأحتلال على إبقاء الأسير البطل ناصر أبو حميد في تلك العيادة السيئة الصيت، يعني أنّه ماضٍ في قرار إعدامه بهذه الطريقة الوحشية والبشعة، كما تم اعدام عدد آخر من أخواننا الأسرى الابطال فيها سابقا دون أية مسائلة دولية رغم كل المناشدات لإنقاذ حياة هؤلاء المناضلين من مقاتلي الحرية الذين ينتظرون الموت البطيء بقرار من الأحتلال البشع.
يُطلق على الفترة الأخيرة التي أمضاها السيد المسيح في ألقدس أسم أسبوع الآلام ويبدأ بدخول يسوع المسيح أليها بسعف النخيل دخول المنتصر.
فقد قال يسوع الثائر الفلسطيني الأول عندئذٍ، "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني". وأشار بهذه الطريقة إلى طريق التلميذ الحقيقي، عبر موقفين، الأول هو "إنكار الذات"، والذي لا يعني تغييراً سطحياً، بل توبةً، وانقلاباً على مستوى العقلية والقيم. أمّا الموقف الآخر فهو أن "يحمل صليبه"، ولا يقتصر هذا على أن يتحمّل الضيقات اليوميّة بصبر، إنما أن يتحمّل بإيمان ومسؤولية، ذاك الجزء من التعب ومن المعاناة الذي تتضمّنه مكافحة الشرّ والظلم، وهنا يأتي قول الشاعر ،"ليسَ بعدَ الليل إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى".
إن ما قاله الثائر الشهيد ناصر ابو حميد الذي سار في درب الاَلام الطويل في رسالته الأخيرة للقائد الأسير مروان البرغوثي مماثل تماما لما قاله الثائر يسوع المسيح ابن مريم، حيث قال ناصر الشهيد فيها، "أنا الآن في أيامي الأخيرة وأسجل آخر حُبي وقبلاتي على جبين الوطن العظيم وشعبه الباسل، ولأنك عندي مِن خير ما أنجبت هذه الأرض من رجال ، فقد اخترت أن أخصّك بهذه الرسالة، التي أريد من خلالها بآمالي وآمال الشهداء أن تبقى الحارس عليهما كما عهدتك دائما".
انه التماثل، فحياة الثائرين هي كفاح دائم لمحاربة كل اشكال الظلم والأضطهاد والأستغلال والقهر، هي حياة نضال ومقاومة وتحدي من أجل بزوغ فجر جديد تَنسِج خيوط نوره الحرية والعدالة والمساواة لكل الشعوب المستضعفة بالأرض، وبالأستقلال الوطني لشعبنا بدحر الأحتلال الأستيطاني البشع الجاثم فوق ترابنا الوطني.
هذا اليوم وفي ليلة ذكرى الميلاد المجيد وبعد أيام من أرتقاء ناصر أبو حميد إلى العُلى بشهادتهِ، فيه ما يذكّرنا برسالة ميلاد ومسيرة سيدنا المسيح عليه السلام في مدينتَي القدس موقع قيامته وفي بيت لحم مهد ولادته، التي هي مصدر إلهامٍ ثقافيٍ وروحي لنا، وإشعاع حضاري بمبادئ كرامة الإنسان والعدالة والتسامح، كما ويذكرنا بمسيرة الشهيد ناصر النضالية وكل أسرانا الأبطال الذين يعانون أبشع انواع القهر حتى في رحيلهم وأحتجاز جثامينهم ومنع تسليمها لأهاليهم، وفي رسالتهم لنا بمعاني استشهادهم.
إن ما قرره الفاشي جانتس وزير حربهم بعدم الأفراج عن جثمان ناصر هو ما يشابه تماما ما فعله قاتلي المسيح بعد صلبه ومنع إنزال جثمانه من على الصليب، هي عقيدة الحقد والكراهية التي توارثها تلاميذهم حتى اليوم لكن بابداع فاشي فاق جرائم النازيين.
فعلى الرغم من تلك المعاناة والظلم والقمع جراء استمرار الأحتلال الأستيطاني الإسرائيلي البشع لأرضنا ومقدساتنا المسيحية والإسلامية وجرائمه اليومية من القتل والترحيل والتطهير العرقي والتهويد والأسرلة، إلا أن ثائرينا وشعبنا سيشاركون بيت لحم معاني الفرح الإنساني لرسالة الميلاد هذا المساء وبحضور الأخ الرئيس أبو مازن الذي رفع صورة الشهيد ناصر في أعلى المحافل الدولية مطالبا العالم بتحمل مسوؤليته الاخلاقية بالحد الأدنى لأنقاذ حياته وحياة كافة الأسرى المناضلين الصابرين الذين يعيشون رائحة الحقد والموت من حولهم، أو بحضور من ينوب عنه لأعلاء رسالةٍ بمعاني الحرية والكرامة والسلام والعدل إلى بقية العالم ، للقول فيها بصوت عالي، كفى صمت عن جرائم الأحتلال وكفانا قهراً وموتاً يومي وكفى استمرارا لهذا الأحتلال الأستعماري ، فشعبنا الذي يحمل صليبه ويسير به بثبات وكفاح بطريق الآلام وتحرره الوطني منذ اكثر من سبعة عقود ونيف يستحق حقه بتقرير المصير.
إن ذكرى الميلاد للرسول الفلسطيني الثائر لهذا العام تأتي في أيام تتصاعد بها مقاومتنا الشعبية والسياسية امام استعلاء الأحتلال العنصري والفوقية اليهودية الاستيطانية البشعة، يُصر خلالها شعبنا على أستلام جثمان ناصر وجثامين كافة الشهداء كي يُكَرموا بدفنهم اللائق كما تستحق سيرتهم ومسيرتهم، والتي سيتم تحريرها، ما يعيد إلى الأذهان أصرار تلاميذ المسيح على أنزال جثمانه سراً من على الصليب رغماً عن قاتليه من الرومان والظالمين من كهنة اليهود وأتباعهم ، من أجل تكفينه ووضعه بقبر قام وصَعد منه إلى العُلى باليوم الثالث.
وهنا نذكر قول المتنبي، "كمْ قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندكمُ ، ثمّ انتَفَضْتُ فزال القبرُ و الكَفن قد كان شاهدَ دفني قبل قولهـمِ، جماعةٌ ثمّ ماتُوا قبلَ مَن دَفَنوا".
إن ليلة ميلاد الثائر الأول هي ذكرى ليست حكراً على المسيحين، بل هي كما باقي المناسبات الدينية والوطنية التي يمتلكها ويفخر بها الكل الفلسطيني الواحد، لقد كان المسيح تعاليم وفكرة، والفكرة لم تمت بل أمتدت وأنتشرت، وهكذا هو الثائر الشهيد ناصر، الذي كان الفكرة أيضاً التي لن تموت ولكنها ستنتشر وينتصر بها شعبنا حتماً.
لنحملُ الفكرة ولنستمر في كفاحنا الوطني التحرري من أجل حرية أسراَنا الأبطال واستعادة جثامين من رَحَل عنا منهم ومن مقاتلين الحرية، وكل عام وجميع أبناء شعبنا بحالٍ أفضل، بأمل أن يحمل المستقبل القريب القادم بشائر الحرية والأستقلال الوطني والتقدم لنا جميعاً.