تتزايد المؤشّرات، على أن هذا العام، يشهد على تحوّلات أكيدة، نحو مغادرة النظام الدولي الذي تتسيّده وتُهيمن عليه الولايات المتحدة، إلى عالم متعدّد الأقطاب.
لم يعد ثمة ما يدعو للبحث عن الأسباب التي أدّت إلى اندلاع الصراع بين أقطاب العالم، ولا عمن يتحمّل المسؤولية عمّا يجري في أكثر من مكانٍ في العالم.
النظام العالمي الذي يتهاوى أمام أنظار الجميع، يتّسم بالظلم والاستبداد، والأنانية، وتوظيف القوة لإخضاع الآخرين وتهديد أمنهم ومصالحهم.
الولايات المتحدة خلال العقود المنصرمة هي التي تتحمّل المسؤولية الحصرية عن اندلاع الصراعات والحروب، وتقويض الأمن والسلام الدوليين، والأمثلة على ذلك لا تُحصى.
لقد أظهرت الولايات المتحدة استهتاراً شديداً، بأمن ومصالح دول كبرى في مقدّمتها الصين، وروسيا، فضلاً عن دولٍ أخرى، في معظم القارات بهدف إطالة أمد النظام الدولي الذي تقف على رأسه، ومن دون مراعاة أو اهتمام، بأن الدولة القومية لا تزال، تفرض شروطها على العلاقات الدولية، بالرغم من تقدم سياسة وآليات «العولمة».
تجاهلت الولايات المتحدة عن قصدٍ، أن العالم إذا كان تحوّل إلى قرية كونية صغيرة، فإن المكوّنات القومية والإقليمية، ستظلّ محفّزاً قويّاً، لرفض ومقاومة، المحاولات التي تستهدف إسقاط الهوية التي تنطوي عليها «العولمة» على الهويات الوطنية.
كان لا بدّ أن يأتي الوقت، لإنهاء حقبة المرحلة التي فرضت شروطها إثر الحرب العالمية الثانية، وجعلت الولايات المتحدة تحدد وحدها مصائر الشعوب، فلقد تقدمت الصين في المنافسة على مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية، واستفاقت روسيا على ضرورة حماية أمنها الاستراتيجي بعد أن اقتربت كثيراً، القواعد العسكرية من حدودها.
وفي السياق، أيضاً، بدأت ملامح التحوّل الجذري، لدى الدول التي خضعت لصكوك الاستسلام، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ونقصد اليابان وألمانيا على نحوٍ أكثر تحديداً.
خلال العقود السبعة السابقة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحت ضغط شروط الاستسلام، نجحت كلّ من اليابان وألمانيا، في تسريع تطوّرهما الاقتصادي، مستفيدتين من التخفّف من تبعات السباق العسكري، وها هما تعودان إلى استثمار ما أنجزتاه اقتصادياً، من خلال عودة سريعة إلى ميدان السباق العسكري.
ألمانيا سبقت اليابان، حين اتخذت قراراً بزيادة إنفاقها العسكري، بمئة مليار دولار، ثم أقدمت اليابان، تحت ضغط حالة الاستقطاب وما تعتبره تهديدات لأمنها القومي، إلى تعزيز موازناتها العسكرية، لتتخذ طابعاً هجومياً وليس دفاعياً فقط.
جاء ذلك بعد اندلاع الصراع في أوكرانيا، وتحشيد الولايات المتحدة وحلفائها لإلحاق الهزيمة بروسيا، وإعادة إخضاعها لقواعد النظام الدولي الذي تدافع عنه بقوة الولايات المتحدة.
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بدأ «حلف الناتو»، يستعيد نشاطه بقوة غير مسبوقة، ويدير العمليات، بين دوله، وروسيا، لكنه حتى الآن لم يظهر الاهتمام ذاته تجاه الصراع المتنامي في المحيطين الهندي والهادئ.
الولايات المتحدة قاومت كل الوقت تحوّل اليابان وألمانيا نحو العسكرة، وما كان لها أن توافق على ذلك، لولا أنها بحاجةٍ لاستغلال قوة الدولتين في حربها من أجل المحافظة على النظام الدولي الذي تهيمن عليه، بذريعة الدفاع عن قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
اليابان على خُطى الولايات المتحدة، اعتبرت أن الصين تشكل الخطر الاستراتيجي الذي يحظى بأولوية، ولا ترى في التهديد الروسي سوى أنه تهديد مزعج، بمعنى يمكن السيطرة عليه في حال غياب التهديد الصيني.
المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة، وحلفائها، فيما يتعلق بالصين لا تتصل في الأساس، بموضوع تايوان على أهميته، بل لأن الصين تشكّل تهديداً استراتيجياً على مكانة الولايات المتحدة اقتصادياً وعسكرياً.
بخطى ثابتة وسريعة تتقدم الصين نحو أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم، مع بنية عسكرية تقليدية ونووية تشكل أداة ردعٍ قوية، وسوق داخلية ضخمة بالإضافة إلى الأسواق الخارجية التي تنافس عليها الصين بقوّة.
تنظر الولايات المتحدة إلى احتمال استعادة الصين لتايوان على أنه سيضيف قوة كبيرة إلى قوة الصين الاقتصادية، فضلاً عن أنه سيفقد الولايات المتحدة، جزءاً مهماً من قوتها العسكرية، التي تتواجد في بحر الصين والمحيطين الهادئ والهندي.
الاستفزازات الأميركية للصين تتزايد، وتدفع الأمور نحو نقطة الصدام العسكري، فلقد كانت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان، تحدّياً كبيراً للصين وخروجاً عن مبدأ الصين واحدة، التي تتذرّع الولايات المتحدة بأنها ملتزمة بها.
يوم الجمعة المنصرم، أقدمت الولايات المتحدة على تصعيد استفزازاتها حين أقرّت قانون تفويض الدفاع الوطني، الذي ينطوي على سياسة عدائية واضحة من خلال تقديم المزيد من الدعم العسكري لتايوان.
مؤشّرات عديدة تؤكّد أن شرق آسيا سيشهد انفجارات عنيفة، سواء ما يتعلّق بالتجارب الكورية الشمالية للصواريخ الباليستية أو ما يتعلق بالصين وتايوان، والحشود العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية.
وإذا كانت الحرب لا تزال في بداياتها، لتفكيك النظام العالمي السائد فإن تأثيرات ما جرى ويجري حتى الآن، تشير إلى أن أوروبا الغربية ستكون الطرف الأكثر خسارة والتي يمكن أن تشهد تفكّكاً للاتحاد، وحتى تفكّكاً لـ»حلف الناتو».
المجتمعات الغربية دخلت عملياً مرحلة الاضطرابات الداخلية بسبب نقص وسائل الطاقة، وارتفاع الأسعار، والتضخُّم المتزايد، وفاتورة المشاركة في دعم أوكرانيا والتضحية بأموال الضرائب.
هل نتحدث عن «جماعة الرايخ» في ألمانيا، وما تشكّله من تهديدٍ داخلي، أم الاضطرابات المتزايدة في فرنسا وإنجلترا، وغيرهما من الدول الغربية، التي اختارت أن تضحّي بمكانتها وإمكانياتها لصالح الولايات المتحدة التي تمارس بحقها الابتزاز واستنزاف الإمكانيات.
التحوُّلات الكونية في بداياتها، وآثارها لا تزال في بداياتها، والأرجح أن تظهر المزيد من التداعيات الخطيرة والصعبة، لتمتد آثارها على منطقة الشرق الأوسط، وبقية القارات.. والأكيد أن أيّ طرفٍ لم يعد قادراً على منع أو وقف هذه التحوُّلات، التي تهزّ العالم.