انقلاب على الديمقراطية، حكومة متطرفة، دولة دينية، حرب أهلية، تمرد، عصيان ... هذه الكلمات تتردد بقوة في المشهد الإسرائيلي بعد تشكيل حكومة وصفت بأنها الأكثر تطرفًا منذ تأسيس إسرائيل، وترددت هذه الأوصاف والكلمات على ألسنة قادة وموظفين كبار، ورؤساء حكومة ووزراء حرب سابقين، ورئيسة محكمة العدل العليا، وجنرالات سابقين، وديبلوماسيين سابقين، ورجال أعمال، ومشتغلين في "الهايتك"، وحتى حاخامات، فهل ما يجري يؤذن بزوال إسرائيل وتتحقق النبوءة عن زوالها مع اختلاف التوقيت؟ فقد كان توقع زوالها في العام الماضي، وها هي يمكن عند البعض أن تزول في هذا العام، وبحد أقصى حتى العام 2027، تحقيقًا لما يسمى "لعنة الأجيال"، التي سبق أن تحدث عنها الشيخ أحمد ياسين وبنيامين نتنياهو نفسه، ولكنّ كلًا منهما لأسباب وأهداف وقراءات مختلفة.
كالعادة، إزاء كل قضية كبيرة مثل ما يجري حاليًا في إسرائيل، تختلف وجهات النظر بين من يهول بما يجري، ويبشر أو ينذر بالحرب الأهلية وقرب زوال إسرائيل، وبين من يهون مما يجري ويتعامل معه وكأنه خلاف عادي وتعارك في إطار لعبة الديمقراطية، وبين من يحاول أن يعطي الأمر حقه ويبحث في خلفياته وأسبابه وآفاقه، وهل يختلف عما حدث سابقًا أم لا، وإذا كان يختلف فإلى أي حد؟
كما نذكر عندما تمرد أنصار دونالد ترامب، وهاجموا الكونغرس تمردًا على نتائج الانتخابات الرئاسية، هناك من نعى الديمقراطية الأميركية، واعتبر ما يحدث انقسامًا لا رجعة عنه، فانتصرت المؤسسة على محاولة التمرد عليها من دون أن يعني ذلك عدم تكاثر علامات تنذر بالانقسام داخل الولايات المتحدة الأميركية، ولكن هذه عملية تاريخية لا تحدث في فترة قصيرة، وإنما تحتاج إلى وقت ولا تسير دائمًا في خط مستقيم ولا في اتجاه واحد.
ما يجري في إسرائيل لا يمكن تفسيره من دون أن نربطه أساسًا بطبيعة المشروع الاستعماري الاستيطاني وخصائصه وجذريته، وانتقاله إلى مرحلة أعلى بعد أن استطاع تحييد التهديد الفلسطيني، وفرض التعامل معه بوصفه ملفًا أمنيًا اقتصاديًا، وساعده على تحقيق هذا الهدف الكبير وقوع واستمرار وتعمق الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي الفلسطيني، وانحدار الموقف الرسمي العربي إلى مستوى انطلاق موجة جديدة من التطبيع، ضمت دولًا عربية ليست من دول المواجهة، ولا على تماس بأي شكل مع إسرائيل؛ ما جعل العلاقات معها أخطر؛ إذ تسير باتجاه إقامة حلف عربي إسرائيلي أميركي يحاول أن يسد الفراغ الناجم من تراجع، ولا أقول أفول، الدور الأميركي في المنطقة.
الموضوع الفلسطيني لم يعد تهديدًا وجوديًا
أكبر دليل على ما سبق أن الخلافات التي تعصف في إسرائيل حاليًا لا تمت بصلة إلى الموضوع الفلسطيني، فهناك التقاء (على الرغم من التطرف الزائد من الحكومة الحالية) بين الغالبية العظمى من الأحزاب في إسرائيل على هدف تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، والخلاف ما بينها ليس على الهدف، وإنما على الأسلوب، بين من يريد أن تكون هناك سلطة وحكم ذاتي يمكن أن تتطور إلى "دولة" لا تملك من مقومات الدول إلا الاسم من دون مساس بالأمن والسيادة الإسرائيلية على كل "أرض الميعاد"، وبين من يرفض أي تعبير عن الهوية الفلسطينية.
ويظهر هذا التلاقي بأن المواطن الفلسطيني لا يلمس فرقًا كبيرًا في سياسة وإجراءات حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو أو نفتالي بينيت أو يائير لابيد، فالقتل اليومي مستمر، وتوسيع الاستيطان مستمر، وهدم المنازل مستمر، واقتحامات الأقصى والسعي إلى ترسيخ وترسيم التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي مستمر، والحصار الخانق وشن العدوان العسكري وراء العدوان العسكري على قطاع غزة مستمر، والفصل العنصري مستمر ويتعمّق، وطمس قضية اللاجئين ومحاولة حلها بتصفيتها بعيدًا عن بلادهم فلسطين مستمر.
الخلافات بين اليهود جديّة
الأزمة في إسرائيل نابعة من خلافات جدية حول طبيعة النظام علماني أم ديني أم خليط بينهما، وتعريف اليهودي، ودور التوراة في الحياة اليومية، ونوع التعليم الذي تحتاجه إسرائيل، وتدخل السياسيين في الأعمال والمهمات البيروقراطية والمهنية، والصراع بين العلمانية الليبرالية، وبين الأصولية الدينية الشعبوية، ومبدأ فصل السلطات واستقلالها، خصوصًا سلطة القضاء، بين من يحاول أن يحافظ على هيبة ما للقضاء، ومن يريد أن يُخضع القضاء للكنيست، ويضرب بذلك أهم ركن من أركان أي دولة ديمقراطية.
حرب أهلية، أم زوال إسرائيل، أم حكومة وحدة وطنية، أم بقاء الحكومة الكهانية؟
إذا تساءلنا هل ستقود الأزمة الراهنة في إسرائيل إلى الحرب الأهلية وزوال إسرائيل، أو إلى سقوط الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو أن تعمر وتمضي سنة أو سنتين أو كل فترتها؟
سنجد أن سيناريو الحرب الأهلية والزوال مستبعد كليًا على المديين المباشر والمتوسط؛ ذلك لأن النظام في إسرائيل قوي وراسخ ومرن ومتعود على التنافس والصراع بين التيارات المختلفة في الحركة الصهيونية، ولأن إسرائيل دولة قوية ومتقدمة اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا، ومستوى دخل الفرد السنوي فيها وصل إلى 55 ألف دولار للفرد، وهو من أعلى المستويات في العالم، ولأن الأغلبية الكبيرة الحاسمة من أعضاء الكنيست من اليمين والخلاف الدائر بين يمين ويمين من دون وجود يذكر لليسار، والخلاف داخل المعسكر الواحد بين يمين ديني متطرف ويمين قومي ليبرالي متطرف ويمين ليبرالي أقل تطرفًا، وهناك دولة عميقة قوية ممثلة، خصوصًا في الجيش وأجهزة الأمن.
كما أن هناك حرصًا غربيًا، وخصوصًا أميركيًا، على عدم انزلاق إسرائيل إلى حرب أهلية أو إلى الزوال. لذا، ما دامت الولايات المتحدة الأميركية أقوى دولة في العالم وفيها جناح قوي يشبه الصهيونية الدينية، وما دام اللوبي الصهيوني في الغرب قويًا والمسيحيين الصهاينة لهم قوة مركزية داخل أميركا وهم مؤيدون للصهيونية الدينية في إسرائيل، ولهم فرصة كبيرة في فوز مرشحهم أو مرشح قريب منهم في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، فلن تتجه الأمور قريبًا إلى حرب أهلية.
وإذا كان سيناريو الحرب الأهلية والزوال مستبعدًا، فإن سيناريو استمرار الأزمة وتعمقها وتصاعدها مرجح، وهذا سيقود إلى سيناريوهات عدة؛ حيث هناك محاولات للاتفاق على تسوية لا تحقق الصهيونية الدينية فيها كل مطالبها، ولكنها لن تقبل بعدم تحقيق أي شيء، خصوصًا أن هناك حاجة لنتنياهو نفسه ووزراء آخرين بالسيطرة على القضاء لوقف الملاحقات القانونية ضدهم، لذلك يرسل نتنياهو رسائل متناقضة؛ إذ طمأن الإدارة الأميركية والعالم كله بأنه ممسك بزمام الأمور وكأنه على خلاف كبير مع حلفائه، وأنه لن يقدم على إصلاحات من دون تحقيق أوسع إجماع عليها، بينما أكد لحلفائه في الحكومة أنه سيمضي في الإصلاحات وفي البرنامج الذي اتفقت الحكومة عليه، والذي انتخبها الناخب الإسرائيلي على أساسه.
ويظهر هذا التناقض في إزالة البؤرة الاستيطانية في شمال الضفة لأنها غير قانونية، فهو قال بعد إزالتها إنه مع الاستيطان، ولكن بشكل قانوني. لذا، سيمضي في شرعنة البؤر الاستيطانية غير الشرعية وفق الاتفاقات الذي عقدها مع شركائه بالحكومة، كما أنه أقال أرييه درعي، تنفيذًا لقرار المحكمة العليا، وفي الوقت نفسه وعده بإيجاد طريقة لإعادته، ووراء كل ذلك سيحرص نتنياهو على أن يحافظ على حكومته؛ لأنه يدرك أن البديل منها أسوأ له ولحزبه وحلفائه ولن يمكنه من الإفلات من الملاحقات القضائية، ولكن سيطبق ما اتفق عليه معهم بالتدريج، وليس مرة واحدة وبشكل لا يثير ردود فعل داخلية وإسرائيلية كبيرة. وهنا، يمكن أن يسمح لهم بتحريك ملف الخان الأحمر والشيخ جراح وغيرهما ضمن القانون الإسرائيلي الذي هو أصلًا عنصري ومنحاز لما يريده اليمين، كما يمكن أن يركز على إحداث اختراق بالتطبيع مع السعودية، مع وعد بتأجيل الضم، وعلى تشديد الحصار، وربما المبادرة إلى العدوان ضد إيران، وهذا ليس سهلًا وثمنه باهظٌ جدًا، وحينها فقط يتقدم سيناريو حكومة الوحدة الوطنية.
المعارضة الإسرائيلية ليست ضمن سقف واحد
ما يعزز من سيناريو بقاء الحكومة الحالية أن المعارضة مختلفة حول كيفية التعامل مع الحكومة، فمنها من يريد أن يكون الصراع أساسًا من داخل المؤسسات، والكنيست تحديدًا، والتفاوض مع الحكومة، وعدم دفع الأمور إلى كسر العظم، ومنها من يريد المضي حتى النهاية لإسقاطها عن طريق الشارع والاحتجاجات والتمرد والعصيان؛ لأن بقاءها سيمكنها من التمكن والسيطرة على ما تبقى من مفاصل في الحكم خارج سيطرة اليمين القومي والديني الأكثر تطرفًا. ولكن في المقابل، لن يقف اليمين القومي والديني مكتوف الأيدي، وسيلجأ إلى الشارع، شارع مقابل شارع، وهو مستعد أن يمضي حتى نهاية الشوط للحفاظ على الحكومة، وهو قادر على الحشد؛ ما سيؤدي إلى تراجع المظاهرات وتأثيرها لإسقاط الحكومة.
أي دور لفلسطيني 48؟
كما أن المعارضة تريد أن تجعل الفلسطينيين داخل إسرائيل مجرد احتياط رديف للمعارضة الإسرائيلية من دون تبني مطالبهم في المساواة وإنهاء الاحتلال وإسقاط نظام الفصل العنصري، وكأن غاية المنى عودة حكومة لابيد أو شبيهة بها، وهي التي مهدت الطريق للحكومة الحالية عندما تماهت مع اليمين إلى حد كبير، لذلك نلاحظ أن بعض أعضاء الكنيست من المعارضة يصوتون لصالح قوانين عنصرية ضد الفلسطينيين أقرها أو على جدول أعماله إقرارها، وهذا من شأنه إخراج ثقل كبير من المعركة ضد الحكومة، أو جعلهم، وهذا أفضل، يخوضون ضد الحكومة معركة موازية تضرب في الاتجاه نفسه، ولكن بالسير منفردين وبأهداف مختلفة.
الضعف والانقسام والتوهان الفلسطيني يمد في عمر حكومة نتنياهو
من الأسباب التي قد تساعد على بقاء الحكومة وعدم سقوطها على الأقل سريعًا، أن الوضع الفلسطيني والعربي مهلهل وضعيف وتائه، والانقسام الفلسطيني مستمر ومتعمق، ويسير بالسلطتين نحو المزيد من الضعف والارتهان، فلو توحد الفلسطينيون ولو على هدف إسقاط برنامج الضم والتهجير والتهويد لأسقطوه وأسقطوا الحكومة، آخذين بالاعتبار كل العوامل الأخرى والمعارضة الكبيرة الداخلية والخارجية لها، هذا إذا توحد الفلسطينيون وخاضوا معركة فاعلة مع الحكومة، معتمدين على المقاومة الشاملة المثمرة من دون تنازلات مخلة ولا مغامرات غير محسوبة، ولا تقديم ذرائع تستخدمها الحكومة لتوجيه ضربات قوية للفلسطينيين وتنفيذ برنامج الضم والتهويد والتهجير والفصل العنصري بمعدلات أوسع وأكبر، فيمكن أن تحاول الحكومة للخروج من مأزقها بتصعيد الموقف مع الفلسطينيين وحزب الله وإيران، والاحتمال الأكبر شن عدوان عسكري على قطاع غزة؛ لأنه الحلقة الأضعف، وتكثيف العدوان الاستعماري الاستيطاني على الضفة الغربية والقدس، ومناطق (ج) تحديدًا.
إسرائيل قوية، ولكن تعاني من نقاط ضعف كثيرة جدًا تنتظر من يستغلها
ما سبق لا يقلل على الإطلاق من نقاط الضعف الكبيرة التي تعاني منها إسرائيل والمشروع الصهيوني، التي من أبرزها: عدم القدرة على جذب كل أو معظم اليهود إلى إسرائيل، وعدم تحقيق طرد نصف الشعب الفلسطيني الذي لا يزال صامدًا على أرض وطنه، وعدده أكبر من اليهود، وعدم تصفية القضية الفلسطينية وإزالتها من جدول الأعمال؛ إذ على الرغم من كل الحروب والهزائم والمجازر والعواصف التي هبت على المنطقة العربية وانحياز الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل بوصفها الامتداد للمشروع الاستعماري الذي يستخدم للسيطرة على المنطقة العربية برمتها وإبقائها أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة والفقر، فلا يزال الشعب الفلسطيني متمسكًا بقضيته، ويناضل من أجل تحقيقها، على الرغم من تراجع مكانتها، طال الزمن أو قصر.
كما أن للقضية الفلسطينية مكانتها البارزة عند العرب وفي العالم كله، وما جرى في مونديال قطر دليل بارز على ذلك، وأن التطبيع الذي بدأ من عشرات السنين لا يزال واقفًا عند الحكام ومرفوض من الشعوب العربية.
هناك الكثير من عناصر الضعف الأخرى الذي سلط الضوء عليها د. وليد عبد الحي، في المقال المهم الذي كتبه بعنوان "ثقوب في بيت العنكبوت"، وأبرزها: فقدان العمق الإستراتيجي، كما يدل صغر المساحة والخاصرة الجغرافية الضيقة، والخلل الديمغرافي؛ حيث يشكل العرب حوالي 20%، والعرب في كل فلسطين يفوق عددهم عدد اليهود، والقلق من تحول مواقف الدول الكبرى تجاه إسرائيل، خصوصًا الولايات المتحدة، والشعور بالتحول الهادئ في الرأي العام الدولي لصالح الفلسطينيين، والثقافات الفرعية في إسرائيل (عرب، وأشكناز، وصابرا، وسفارديم ... وعلمانيين ومتدينين ... إلخ)، والخشية من انعكاسات التحولات في القوى الإقليمية في الشرق الأوسط على الأمن الإسرائيلي، ومشاعية التكنولوجيا التي قد تجعل التنظيمات الصغيرة قادرة على إنتاج أسلحة متطورة أو غير تقليدية، وإنهاء الاحتكار النووي في الشرق الأوسط، والخوف من انعكاسات العولمة والنزعة العلمانية على الهوية اليهودية للمجتمع الإسرائيلي، والتباينات الطبقية، ودولة الاحتلال هي نموذج ينقرض، فهي معاكسة للاتجاه العالمي، إضافة إلى تزايد نسبة الفساد في المجتمع الإسرائيلي، وغياب القيادات الكاريزمية، والتكدس الحضري، فإسرائيل من ضمن الدول الأعلى بين دول العالم في الكثافة السكانية، والحساسية تجاه خسائر العنصر البشري في المعارك الحربية، فضلًا عن القلق من الصورة الذهنية لليهودي في الذهن العربي، والمكانة الدينية لفلسطين، وأخيرًا مستوى الاستقرار السياسي.
كما يلاحظ، فإن هناك نقاط ضعف كبيرة وكثيرة جدًا بانتظار من يستغلها، من خلال بلورة رؤية إستراتيجية متكاملة قادرة على الانتصار.