في مقال الأسبوع الماضي حول مقاربات الرواية والرؤية في توصيف حالة دولة الاحتلال الاستعماري ، اجتهدت باستعراض أسس ومفاهيم الرواية اليهودية الصهيونية بابعادها المختلفة وربطها بما هو جاري عبر تاريخ نشؤ دولة الاحتلال الاستعماري ، بما قد يفسر معالم رؤية ومنهج عملهم في ظل تطورات الحالة الجارية.

وقد خَلصتُ في نهاية المقال السابق إلى السؤال الوارد أمامنا نحن ، حول إمكانية وكيفية نجاحنا اليوم في استثمار النفور العالمي وتحديدا على المستويات الدولية الشعبية من ما هو جاري من تصعيد لجرائم ولتحولات تحمل اشكال الابرتهايد والاستيطان والفاشية معاً والتي تعكس اليوم الوجه الحقيقي للحركة الصهيونية ، من اجل محاصرة وعزل دولة الأحتلال ، وليس بالدعوة الى عزل الأحتلال الذي هو بالاصل تعبير عن جوهر هذه الدولة ، ولجم عدوانها المستمر والمتصاعد وصولاً الى حقنا بتقرير المصير والأستقلال الوطني واسقاط نظام الابرتهايد.

أن الاجابة على تساؤلي يكمن بالسؤال السائد اليوم بشأن مسار القضية الفلسطينية ، وما هي الرسالة التي يجب أن يوصلها طرح روايتنا كأمرٌ ضروري ينطوي على مصلحة وطنية ملحة ، وما هي أسس نهج المواجهة المطلوبة الآن. 

ان هنالك ضرورة للقرأة النقدية حول كيفية رواية التاريخ وإلى الغرض من ذلك ، وتتضح هذه الضرورة في تفنيد الرواية الصهيونية القائمة على نفي حق شعبنا في وجوده على ترابه الوطني واحلال مكانه خرافة ما سُمي بالشعب اليهودي وحقهم المزعوم في تقرير المصير من خلال انشاء منظموتهم الاستعمارية ، ومحاولاتهم محي الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني منذ بداية جريمة التهجير القصري والتطهير العرقي "النكبة" ، بعد أن كان اليهود جزء من الشعب الفلسطيني أو شعوب اخرى قبل قرن من الزمن. 

حيث ومنذ ذلك الوقت تواجه رواية التهجير الفلسطينية والنفي والاحتلال والتمييز العنصري جهودا ممنهجة ومنظمة من الحركة الصهيونية ومن يساندونها تهدف إلى تفريغها من دلالاتها وفرض وقائع الوضع الراهن ، وإظهار الصراع وكأنه مسألة اراضي متنازع عليها ، أو مسألة تحسين شروط حياة او حكم ذاتي محدود في احسن الحالات . 

فهنالك مفارقات واسعة تاريخية وقانونية بين روايتنا وروايتهم بل وثقافية أيضا ، تعكس مدى الهوة الواسعة بينهما والى كيفية استثمار تلك الرواية سياسيا في الوصول الى تحقيق الرؤية ، والى ضرورة التخلص من مفردات ومصطلحات أصبحت دارجة بالخطاب السياسي الدولي أو المحلي تتسم بالمغالطات أو تؤدي الى اغفال حقنا التاريخي على ترابنا الوطني وحقيقة روايتنا .

وبغض النظر عن التحديات التي تواجه دولة الأحتلال الاستعماري اليوم بعد ٧٥ عاما من بدايات جريمة الاستيطان في فلسطين الذي اتجه إلى مفهوم استكمال مشروع الحركة الصهيونية في كامل فلسطين التاريخية او الانتدابية وفق روايتهم التي قدمتها بالمقال السابق . فأن تلك التحديات التي نراها اليوم بحكم عدم عبثيتنا السياسية والتي تتلخص اساسا بالتحولات الجارية نحو الانحدار لشكل الفاشية الدينية وما له علاقة بانقسامات مجتمعهم المتصاعدة الآن ومظاهر الأزمة لديهم ، في غياب معسكر معادٍ للصهيونية والتي تعتبر شكلا متقدما من العنصرية ، يتوجب العودة إلى ادانتها بالأمم المتحدة .

هذا إضافة إلى ما امامهم من التحديات الإقليمية المتمثلة في الملف الايراني وتطور الأوضاع بسوريا والعراق ولبنان .

وتداعيات المتغيرات السياسية الدولية الجارية الآن والمترتبة عن استمرار الحرب بالوكالة التي افتعلها الناتو في أوروبا والذي يشكل تحدٍ آخر لدولة الاحتلال الاستعماري وحكومتها الحالية ، خاصة إذا ربطنا ذلك بالعلاقات الروسية الإسرائيلية وكيفية تطور اتجاهاتها في ميزان الربح والخسارة لإسرائيل ومكانتها ، خاصة مع بداية ولوج العالم إلى نظام دولي جديد ينهي الهيمنة الأمريكية احادية القطب ويهدد مكانة وتفوق دولة الاحتلال لاحقاً كتحصيل حاصل . 

اما التحدي الأساس فيتمثل بما له علاقة من تحديد لرؤيتنا نحن في مدى نجاحنا بمواجهة استمرار هذا الأحتلال الأستعماري بكل مظاهره وتجزيئاته من الفوقية اليهودية والعنصرية والفاشية الدينية المتنامية الآن التي أصبحت تصبغ شكل النظام في دولة الاحتلال الأستعماري اكثر من السابق ، تحديات تواجهها دولة الاحتلال بحكم كفاحنا على الأرض وبالمحافل الدولية وبشكل خاص الآن في محكمة العدل الدولية والجنايات والجمعية العامة كما في مجلس الأمن هذه الأيام. 

لذلك وامام وضوح تلك التحديات ، علينا أن نبني رؤيتنا للمرحلة القادمة من المواجهة استنادا لروايتنا التاريخية الحقيقة ، ولتقييم تجربة مسيرة حركتنا الوطنية بروح موضوعية وما تمخض عنها من أشكال كفاحية وتنظيمية .

ووفق بحث قد نشرته سابقا مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، "فقد بدأ التاريخ الفلسطيني قبل نكبة ١٩٤٨ بزمنٍ طويل في مراحل سطوة الامبراطورية العثمانية ، بل إن شعبنا الفلسطيني أمضى معظم النصف الأول من القرن العشرين في مقارعة الأحتلال البريطاني أو ما سُمي بالانتداب الذي هيئ عمداً لبدايات الأستعمار الصهيوني لارضنا لاحقا من أجل منعنا من تقرير مصيرنا ومحاولات محو وجودنا ."

رؤية يجب أن ترتبط بالرواية التاريخية لشعبنا ووجودنا في وطننا منذ تاريخ الكنعانين مرورا بمراحل التحضير والتنفيذ لجريمة التهجير القصري والتطهير العرقي وصولا للحالة التي نحن عليها اليوم والتي تتلخص "بنفي امكانية ما كانت بعض الأوساط الإسرائيلية تحاول الإيحاء بخصوصه امامنا وامام العالم ، بأنه يمكن للفلسطينيين إقامة "دولتهم" على ما يتبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة ١٩٦٧ بعد أن تكون إسرائيل قد استولت على أكبر قدرٍ منها بأقل عدد من سكانها الفلسطينيين بدلا عن كافة الأراضي المحتلة بما فيها القدس .

ولكن حتى لو افترضنا أنه سيُسمح باقامة كيان فلسطيني محدود ، فإن ذلك الكيان سيكون منزوع السيادة، وغير قابل للأستدامة اجتماعيًا واقتصاديًا، ومُقطع الأوصال جغرافيا ".

 وهو ما تحاول دولة الاستعمار ترسيخه ليتم باقل بقليل من وجود مليون مستوطن والسيطرة على جزء كبير من تقسيمات الأراضي التي ترتبت بموجب اتفاق اوسلو الذي هدفت الحركة الصهيونية من خلاله الوصول الى الحالة القائمة الان بعد أن انهته بنفسها . هذا الأمر الذي عنى الإجهاض المتعمد للحل الدولي القائم على مبدأ حل الدولتين وحتى لما تبقى من هوامش للأتفاقيات السابقة التي اسقطتها دولة الأحتلال تهيئةً لذلك الغرض ، علما بأن ما تم الاتفاق عليه في أوسلو بالاصل لفترة انتقالية كان قد انتهى عام ١٩٩٩. "

ويتابع البحث القول ، "وفي هذا السياق لن يتوفر أي حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي قابل للديمومة إنْ تجاهل حق اللاجئين والمنفيين الفلسطينيين في العودة إلى موطنهم ، وليس إلى "دولة" مقامة على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة ، بل وبالأساس إلى موطنهم الأصلي أيضا الذين شردوا منه قصرا " . كما وتنفيذ حق تقرير المصير لشعبنا وتحقيق استقلاله الوطني وضمان حقوقه القومية بغض النظرعن الحل النهائي ان كان على شكل دولتين ذات سيادة وفق اهمية اعتراف ١٤٠ دولة بدولتنا المستقلة وعاصمتها القدس ، أو بحل دولة ديمقراطية واحدة تتساوى بها الحقوق القومية والاجتماعية دون تمييز بغياب الفكر الصهيوني والفوقية الدينية او الاثنية التي تمارس الآن.  

من هنا علينا الإعتماد على رؤية واضحة وفق تلك التطورات والمتغيرات تستند إلى تعزيز التراث الفكري والكفاحي لدور الحركة الوطنية ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية أمام محاولات تطويعها من جانب الولايات المتحدة والغرب وبعض العرب المطبعين ، وبناء رؤية وطنية إستراتيجية شاملة وموحدة لدورها في قيادة كفاح شعبنا بوحدة وطنية في كافة اماكن تواجده دون اختزال قضية شعبنا بالمتواجدين فقط بالاراضي التي احتلت عام ١٩٦٧ . والانتقال بمهام السلطة الوطنية إلى تنفيذ برامج صمود حقيقية تعزز تمكين شعبنا من المواجهة بالقطاعات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية لأدراكنا أن التنمية المستدامة تحت الأحتلال غير ممكنة ، كما وتعزيز العمل جديا نحو الانفكاك بالعلاقات مع دولة الاحتلال واجهزتها المختلفة ليكون الأحتلال اكثر كلفة ، من خلال التكامل مع أشكال المقاومة الشعبية والاقتصاد المقاوم واشكال المقاومة السياسية الدبلوماسية والقانونية ، حتى لا يبقى هذا الأحتلال الاستيطاني هو الأرخص بالتاريخ كما وصفه الأخ الرئيس أبو مازن في وقت سابق . 

 "لذلك هنالك ضرورة بعدم جعل العام ١٩٦٧ عام احتلال إسرائيل بقية الأرض الفلسطينية جوهر العديد من مفاصل الخطاب الإعلامي السياسي ، سواءً بقصد أو بغير قصد ، فهذا يُسقِط المسؤولية عن سيرة الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني إبان الانتداب البريطاني وما تبعه من إقامة كيان استعماري داخل ذلك الكيان الانتدابي الذي خُطط له منذ ١٩١٧ من جانب قوى الأستعمار " . هذا الظلم والتوحش الذي ما زال شعبنا يتعرض له حتى يومنا هذا ، حيث باتت المجازر واعمال القتل والتدمير وضم الأراضي تتم بشكل يومي في ظل صمت دولي مُعيب ومنافق ، الأمر الذي سيُقابل بالتأكيد بمقاومة تستند إلى جيل جديد من الشباب وافكار من خارج الصندوق لتفعيل مكانة قضيتنا على الخارطة السياسية العالمية رغم الأولويات الدولية الأخرى الآن. 

أن ما اتخذته القيادة الفلسطينية يوم أمس الاول من قرارات تعتبر امراً طبيعيا في مواجهة الحالة الجارية ، لكنها هامة في رسم رؤية المواجهة الحالية المطلوبة ، والتي باعتقادي يجب أن تستند إلى الأسس المذكورة في تصويب بعض المغالطات لتكون الرواية مكتملة وصحيحة .

أن كل نص وفقرة من تلك القرارات المتخذة خاصة المتعلق منها بوقف التنسيق الأمني والحوار الوطني الشامل ومتابعة العمل بالمحافل والمحاكم الدولية وتصعيد المقاومة الشعبية يحتاج كل منها الى تفصيلات ومتابعات دقيقة تشكل برامج عمل جدية وعملية من خلال ادوات فاعلة وواضحة بهدف تحقيقها ضمن استراتيجية وطنية بديلة عن تلك التي جرت بالعقدين الاخيرين ، حتى نكون مؤثرين وتؤخذ رؤيتنا بشكل جدي من جانب المجتمع الدولي أو من جانب من يمارسون سياسات الترهيب والتخويف بحقنا مقابل سراب ووعودات واهية لن تؤدي سوى لأستدامة الوضع القائم وفق محددات علاقتهم الإستراتيجية مع دولة الأحتلال وحمايتها الوقحة . وذلك حتى نستطيع أن نقاوم ونواجه المحاولات الصهيونية الساعية إلى منعنا من حق تقرير مصيرنا ومحونا من التاريخ كما يعتقدون هم واهمين.