رغم ان الحديث عن زيارة بلينكن التي لم تنطوي عن شيئ مختلف عن ثوابت ومحددات العلاقة الاستراتيجية المعروفة سلفاً مع دولة الاحتلال والتي تهدف الى حماية إسرائيل تحت اي ظرف والقاء اللوم علينا نحن الذين نعاني الاضطهاد هي الأهم . لكن مما يُؤسَف له الموقف الرسمي لحكومة اليمين اليونانية الحالية من استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي وتعمدها عن عدم ادانة ممارسات حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي الاستعمارية التي تتسم بالعنصرية والفوقية اليهودية وكل معاني الفاشية ضد شعبنا الفلسطيني وحتى ضد مواطني "دولة إسرائيل" نفسها تحت مبررات الدفاع عن النفس وتنفيذ القانون القومي اليهودي فيها ، والتي تشهد شوارعها مظاهرات يومية من قبل عشرات الآلاف من أفراد المجتمع الإسرائيلي نفسه ضد سياسات حكومة نتنياهو - بن غفير - سموتريتش وفضح اكذوبة «ديمقراطية إسرائيل».
لقد تزامنت زيارة وزير خارجية اليونان يوم أمس لأسرائيل في وجود وزير الخارجية الأمريكي بالمنطقة الذي طغت زيارته على الأخرى ، وفي وقت تشهد فيه شوارعها مظاهرات معارضة إسرائيلية واسعة في البلدات الإسرائيلية الرئيسية ضد الانقلاب الذاتي الذي ينفذه نتنياهو مع بن جيفير وسموتريتش في إسرائيل بشكل أساسي ضد حكم القانون وزعزعة استقرار النظام القضائي ومحاولات اضفاء تعاليم الشريعة اليهودية على مفاصل الحياة ، بهدف خدمة المنافع الشخصية للهروب من المحاكم بتهم الفساد وصبغ دولة الاحتلال الاستعماري بالكامل بالهوية الدينية اليهودية ، فصبغ زيارته وموقفه إلى جانب تلك التوجهات النتنياهوية القائمة.
لقد تضمنت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية اليوناني دندياس إلى إسرائيل "الدولة القائمة بقوة الاحتلال" لقاءات مع كوهين ونتنياهو وهيرتسوغ كما أعلن في بيان صحفي لوزارة الخارجية اليونانية أمس ، دون أن يتضمن برنامج زيارته للمنطقة زيارة دولة فلسطين المحتلة او لقاء وزيارة وزير الخارجية الفلسطيني على الأقل كما يفعل زملاؤه الاوروبين او كما فعل هو نفسه في زيارته السابقة .
وتأتي هذه الزيارة بعد امتناع اليونان وقبرص عن التصويت في 11 نوفمبر 2022 في اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي طلبت رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بشأن التبعات القانونية للاحتلال الإسرائيلي الطويل الأمد ، وصمة عار على كل ما مروا به في تاريخهم المضطرب خلال الاحتلال النازي أو زمن الديكتاتورية العسكرية، حيث ان اليونان وقبرص تعرفان جيدا ما يعنيه اضطهاد ومنع الوجود الإقليمي والسياسي وحق تقرير المصير والسيادة على الأرض والمياه ، هذا المنحى من التصويت الذي اختلف عما كان دارجا بالسابق .
لقد شكلت هذه المواقف والزيارة موقفًا منحازاً لا يخدم الموقف التاريخي اليوناني الذي دعا دائما إلى ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ودعم مبدأ حل الدولتين وفقًا للقرارات الدولية والقانون الدولي والدولي الانساني ، ولا في دعم مبدأ السلام وبدء المفاوضات ، ولا حتى السياسات والتوجهات المعلنة والسياسات الرسمية السابقة لدولة اليونان ، كما ومواقف الشعب اليوناني الصديق والأحزاب السياسية الصديقة التقدمية التي رسمت ملامح قرار البرلمان اليوناني منذ سنوات قليلة بضرورة الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية على كافة الأراضي المحتلة عام 1967.
وهي مواقف سياسية رسمية اصبحت تتعارض مع مواقف الشعب اليوناني وقواه الديمقراطية والتقدمية التي دأبت على إدانة سياسات الأستيطان الاستعماري وضم الأراضي ، والتي قادت مظاهرات حاشدة في اليونان خلال السنوات الماضية تنديدا بإسرائيل كقوة احتلال استعماري ومعلنة تضامنها مع النضال الوطني لشعبنا الفلسطيني.
لقد صرح وزير الخارجية اليوناني على اثر زيارته ، "ان اليونان وإسرائيل اقامت شراكة دائمة على المستوى الاستراتيجي ، على أساس المصالح المشتركة ووجهات النظر المتقاربة حول العديد من التحديات ، وكذلك على الاحترام المشترك لنظام دولي قائم على القواعد الدولية ورؤية مشتركة لجوارهما " .
لقد اشار الوزير اليوناني فقط للنظام والقانون الدولي الجاري بشأن الخلاف مع تركيا ، علما بانها وإسرائيل تربطهم شراكات وثيقة وعلاقات دبلوماسية تتطور مع الايام . لم يتطرق الوزير اليوناني الى إدانة الجرائم الإسرائيلية المستمرة بحق شعبنا الفلسطيني وانتهاكاتها للقرارات الدولية في زيارته ، أو على الأقل لما يدور الان من تصعيد للجرائم بحق شعبنا بشكل يومي ، ودون ذكر قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي واتفاقيات جنيف التي نلتزم بها نحن الفلسطينيين كمبادئ لأي نزاع في أي مكان في منطقة شرق البحر المتوسط وفي جميع أنحاء العالم ، رغم ما تربطنا من علاقات ودية وتاريخية مع الجمهورية اليونانية عبر عقود من الزمن .
كما وفشل الوزير اليوناني في الإشارة إلى ضرورة وأهمية تطبيق الإجماع الدولي لحل الدولتين على حدود ما قبل الرابع من حزيران (يونيو) 1967 ومسألة القدس الشرقية كعاصمة فلسطينية محتلة ، كمسار وحيد يشكل السلام العادل ، وهو ما يشكل موقفاً منحازاً تجاه تلك السياسات التي تنفذها حكومة الاحتلال الإسرائيلي ويشجع على استمرارها ، بل إنه يعكس النهج السياسي المتمثل في ازدواجية معايير الغرب الدولية والنفاق السياسي الذي تتبعه حكومات اليمين الأوروبي، وهو ما يوفر الغطاء والإفلات من العقاب والحماية لسياسات الفصل العنصري وسياسات الاستيطان الاستعماري والفوقية اليهودية والجرائم اليومية ضد شعبنا الفلسطيني الذي يسعى إلى الحرية والسلام العادل .
ان هذه الزيارة تأتي كأول زيارة لوزير خارجية أوروبي في ظل هذه الحكومة اليهودية الأكثر فاشية وتطرفًا ديني والتي تمثل الوجه الحقيقي للإيديولوجية العنصرية للحركة الصهيونية ، وفي وقت تتصاعد فيه عمليات قتل الفلسطينيين ، حيث تجاوز 35 فلسطينيًا منذ بداية الشهر الجاري ، بينهم 10 من الشباب الفلسطيني في يوم واحد قبل أيام قليلة في مخيم جنين للاجئين ، وتدمير منازل وحتى منشآت ممولة من الاتحاد الأوروبي وتهديدات بهدم منطقة الخان الأحمر قرب القدس وترحيل سكان منطقة مسافر يطا قرب الخليل و زيادة حجم المستوطنات الاستعمارية تنفيذاً لسياسات التطهير العرقي والترحيل القسري التي تنفذها حكومة دولة الاحتلال "إسرائيل" خاصة في القدس الشرقية المحتلة ، حيث كان الوزير دندياس معنيًا بتجاهلها و بالحديث فقط حول ممتلكات بطريركية الروم الأرثوذكس بالقدس الشرقية التي اشار لها في محادثاته ، بغض النظر عن ان هذه القضية المهمة بالنسبة لنا كشعب فلسطيني وأتباع هذه الكنيسة يتوجب حمايتها وأن يُنظر إليها على أنها مسألة تندرج في اطار الرؤية الاسرائيلية لتهويد القدس وطمس هويتها العربية المسيحية والإسلامية ، فكان الأجدر به أن يتحث عن كل القدس الشرقية والانتهاكات بحق المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها .
كان عليه ان يعلم بان هذه الممارسات والجرائم القائمة اليوم تاتي في إطار سياسة ممنهجة منذ ٧٥ عاما وهي تكرار ونسخ لجرائم العصابات الصهيونية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين ، سكان الأرض الأصليين ، خلال جريمة "النكبة" ، عندما تم تهجير مليون فلسطيني قسريًا من منازلهم الأصلية وتطبيق سياسات التطهير العرقي لتنفيذ المشروع الصهيوني في كل ارض فلسطين التاريخية .
أمام ذلك فإن على الحكومة القائمة اليوم باليونان والتي تستعد إلى انتخاباتها العامة خلال الأشهر القريبة القادمة ، أن تعي معنى التوازن والعقلانية في سياستها الخارجية التي يجب أن تقوم على أسس القانون الدولي ورفض الاحتلال وكل أشكال الاستعمار والتمييز العنصري .
لقد قاتل الشعب اليوناني الصديق وقدم عشرات الآلاف من ابنائه في كفاحه من أجل صيانة استقلاله الوطني منذ مئتي عام والدفاع عن ترابه الوطني ، وقد وقف شعبنا الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب اليونان وقبرص في أحلك الظروف من أجل استقلالهم وازدهارهم والحفاظ على سيادة ووحدة اراضيهم ، وفي سبيل استقرار المنطقة والحفاظ على السلم والأمن الدوليبن التي تهددهما سياسات دولة الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي وإرهابها المنظم ، التي ترى في نفسها دولة فوق القانون الدولي وتمارس جرائمها دون محاسبة وعقاب في زمن هذا النظام الدولي المتهاوي الذي يتجه إلى التغيير ..
* سفير فلسطين السابق لدى اليونان .