يكمن جذر المشكلة الأساسية بالمنطقة بوجود الأحتلال الأستعماري القائم في فلسطين ، فهذا أصل المشكلة، والاستغراق بمناقشة التفاصيل اليومية الناتجة عنه يجب أن لا يغلق أعين أحد عن أن أصل كل الحكاية هو وجود الأحتلال الأستعماري الذي وجد على حساب وجود وحقوق شعبنا الأصلاني من خلال جرائم ومحارق ارتكبت على مدار اكثر من خمسة وسبعون عاما ، حتى وصلت إلى القتل اليومي بحق أبناء شعبنا ومحاولات إعادة جرائم الحركة الصهيونية مرة أخرى.
ان حاجتنا لحقن دماء شعبنا وللأمن والأستقرار على أهميته وضرورته لن يتحقق الا بإنهاء الأحتلال الأستيطاني عن ارضنا وتنفيذ حقنا بتقرير المصير وأستقلالنا الوطني بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود ما قبل الرابع من حزيران ٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية وتنفيذ حل قضية اللاجئين وفق القرار ١٩٤ ، هذا ما يتوجب أن يكون اساسا لأي مسار سياسي ، ودون ذلك نبقى في دوامة تدوير التجارب والتاريخ أو في مسار سراب مخادع .
ان هذا ما يجب أن يشكل محور وجوهر الحديث مع اي طرف ثالث بما فيها الإدارة الأمريكية التي يتوجب عليها قبل أن تكون طرفا او وسيطا فيما تسميه هي "خفض التوتر" ، أن تعمل اولاً على ضرورة ايفاءها بوعود بايدن بشأن القنصلية العامة بالقدس وممثليتتا في واشنطن وشطب منظمة التحرير من قائمة " الإرهاب " ، اضافة الى ضرورة العمل بالالتزام على تطبيق قرارات الشرعية الدولية خاصة المتعلق منها بشأن القدس والمستوطنات التي لم تطبق حتى الان بحكم النفاق وازدواجية المعايير .
هذا ما يشكل برأي حجر الأساس في تصويب وتحديد اي علاقة مع الأمريكان التي يجب ان تقوم على أساس وضوح الموقف من تلك المحددات ، كما والأصرار على تناول حل جذر المشكلة المتمثل بالأحتلال الأستيطاني وتداعياته المختلفة اولأ ، أمام استمرار محاولات الولايات المتحدة في طرح مسارات لإدارة الأزمة فقط باوجه أمنية واقتصادية دون إيجاد الحلول بتناول جذر المشكلة للوصول إلى حقوق شعبنا الوطنية السياسية اساسا والمتمثلة بانهاء الأحتلال . ان ما تسعى له الإدارة الأمريكية يندرج في إطار محاولات تجميل ما سمي بصفقة ترامب أو تجميل الأحتلال بمعنى آخر ، التي رفضها شعبنا وقيادتنا السياسية في وقت سابق .
ان الولايات المتحدة تسعى لما اشرت له بمقالات سابقة من اجل تسهيل تنفيذ مشروعها حول "الشرق الأوسط الجديد " ومصالح تمددها ونفوذها والحفاظ على دولة الأحتلال كاداة هامة وظيفية لخدمة هذه السياسات بغض النظر عن شكل الحكم القائم ان كان بالولايات المتحدة او بدولة الأحتلال .
لكن واضح اليوم انها ليست معنية باستمرار وجود هذا الائتلاف الحاكم الذي قد يُحرجها وقد يعطل باجراءاته مخططات الولايات المتحدة خاصة في شأن اتفاقيات ابراهام ودور دولة الأحتلال الوظيفي المتقدم فيه ، وبالتالي فهي تسعى للأطاحة بهذا الائتلاف واستبعاد التيار الصهيوني الديني وربما لإعادة غانتس وغيره من اقطاب الصهيونية العلمانية اليمينية إلى أحضان نتنياهو لتمرير مشاريعها ومشاريعهم بتجاهل الحقوق الوطنية السياسية لشعبنا خاصة بعد النفور الكبير الحاصل في اوساط المجتمعات اليهودية بالعالم وتحديدا في بريطانيا والولايات المتحدة من سيطرة الصهيونية الدينية واذرعها من المستوطتنين على مفاصل الحكم في دولة الأحتلال ، وذلك حرصا منها على استقرار إسرائيل.
ويجرى الحديث منذ فترة، عن دور وظيفي جديد لإسرائيل في الترتيبات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط ، وجاء هذا الحديث متزامناً مع بعض الخطوات والإجراءات الأمريكية ” الإنسحابية” أو ” التراجعية” من الشرق الأوسط ، والتي برزت بشكل واضح خلال إدارة ترامب السابقة ، واستكمال إدارة بايدن بعض خطواتها في اطار اولويات استراتيجيات الأمن القومي التي لم تغفل يوما مصالحها المتبادلة مع الحركة الصهيونية منذ نشأتها ، وهذا امر لا يحققه تمرد اوساط بالجيش أو سلاح الطيران كما هو حاصل اليوم .
حيث وبعد وقوع الحرب الروسية الأوكرانية/ الاطلسية التي اثارتها الولايات المتحدة ، وما كشفت عنه حتى الآن من نتائج ومؤشرات ومخاطر مختلفة على الأمن العالمي والإقليمي التي أعتقد أنها قد تكون كفيله بتغيير كثير من الاستراتيجيات التي تم صياغتها قبل هذه الحرب، ومنها ما يتعلق بمراجعة استراتيجية تخفيف الوجود والثقل الأمريكي في الشرق الأوسط، ومنها ما يتعلق بمستقبل إسرائيل في المنطقة ودورها الوظيفي ، خاصة ما يتعلق منها بالترتيبات العسكرية والامنية.
كما أن عودة العلاقات الدبلوماسية اليوم بين السعودية وايران برعاية الصين التي يتمدد دورها اليوم ، امر يفتح آفاق واقع جديد قد يغير في المعادلة القائمة ويسقط مقولة وفزاعة العدو الفارسي للأمة العربية الذي حاولوا احلاله بدلا عن العدو الصهيوني ، كما ويضع الولايات المتحدة ودولة الأحتلال في مأزق من هذا التطور خاصة في شأن الدور الوظيفي لإسرائيل أمام هذه التحديات جديدة .
وفي الوقت الذي يعبر فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن عن وجهات نظر تقليدية، ويؤكد مراراً على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ، وتراجع مسوؤلين الادارة الامريكية عن تصريحاتهم بحق استقبال سموتريتش وغيره ، نجد أن الأجواء الحزبية المحيطة حول بايدن رغم قلتها من اوساط التيار التقدمي تعبر عن قلقها، على أقل تقدير، من ظروف معيشة شعبنا ، وترى أن السياسات الإسرائيلية تزيد من الماَسي وتعقيد الامور والضرر بالمصالح الامريكية ،ويطالب البعض منهم بمراجعة العلاقات مع اسرائيل خاصة في شان المساعدات ودورها الوظيفي المفترض .
وهنا يمكن النظر إلى الكونغرس الامريكي ، كونه المؤسسة الأكثر تمثيلا للمناخ السياسي الأمريكي، لرصد تحول سياسات الحزب الديمقراطي بشأن فلسطين وإسرائيل ، حيث غالباً ما كانت تسيطر وجهات النظر المتعاطفة مع إسرائيل على السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالصراعات الإقليمية، بسبب أصوات الناخبين اليهود (وهي قاعدة كبيرة للحزب الديمقراطي) أو الكنيسة الإنجيلية (وهي قاعدة موازية للحزب الجمهوري) وهو امر قد يبدل الدور الوظيفي لاسرائيل دون أن يؤثر على مصالح الولايات المتحدة ، الأمر الذي يتطلب استقرار الأوضاع فيها ، فاسرائيل تبقى امتداد للقوة الأمريكية القائمة ، والعلاقة بينهما لا تقوم على أسس ومبادئ سيادة الديمقراطية فقط وإنما لاعتبارات ومحددات مختلفة أخرى لا تتوفر مع دول شرق اوسطية أخرى ، ولهذا فإن الإدارة الأمريكية تخشى اي تغيرات دراماتيكية في إسرائيل والتي قد يكون لها آثار كبيرة على استراتيجيات الولايات المتحدة .
وهنا تستحضرنا الذاكرة لتاريخ ١٦ ديسمبر ١٩٩١ حين حضر الرئيس الأمريكي بوش بنفسه وتقدم من منصة الجمعية العامة للامم المتحدة ليقدم مشروع قرار جديد، الذي ينص على إلغاء القرار ٣٣٧٩ الذي كان قد أعتمد في ١٠ نوفمبر ١٩٧٥ بتصويت ٧٢ دولة "بنعم" مقابل ٣٥ "بلا" وامتناع ٣٢ عضوًا عن التصويت . ذلك القرار الذي أقر «أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري» ، والذي طالب جميع دول العالم بمقاومة الأيدولجية الصهيونية التي حسب القرار تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين.
قال بوش وهو يقدم مشروع القرار للتصويت: "الصهيونية ليست سياسة، بل فكرة أدت إلى قيام وطن للشعب اليهودي، هو دولة إسرائيل. إن مساواة الصهيوينة بإثم العنصرية البغيضة تشويه للتاريخ ونسيان لمعاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتأكيد خلال التاريخ بشكل عام. إن مساواة الصهيونية بالعنصرية يعني رفض وجود دولة إسرائيل، إن إلغاء ذلك القرار بدون شرط يعزز من مصداقية الأمم المتحدة ويخدم الهدف الأسمى للمنظمة الدولية وهو السلام."
ان الصهيونية عبارة عن أيديولوجية سياسية محددة، تمت صياغتها من قبل منظمة سياسية محددة، أطلقت حركة سياسية محددة معبرة عن ذاتها بممارسات محددة، تهدف إلى إقصاء شعب بناء على كونهم غير يهود، وإدخال جماعات في تلك العملية السياسية بناء على كونهم يهودا. فاليهودية حسب التعريف الرسمي للصهيونية مرجعية عرقية لا دينية، أي أن اليهود يشكلون شعبا واحدا وفق ادعائهم بحاجة إلى دولة لليهود فقط. وبرنامج الصهيونية هو تحقيق هذا الهدف عن طريق عملية مزدوجة ، ضخ أكبر عدد من يهود العالم أينما كانوا وجمعهم في منطقة واحدة وطرد أكبر عدد من السكان الأصليين ليحل محلهم اليهود المستوردون ، أليست هذه العنصرية بعينها؟؟
ان دولة الأحتلال بوجهين الوجه الأول هو الصهيونية العلمانية التي كانت في بداية انطلاقتها تجميع الشتات اليهودي في أي دولة في العالم ، وبعد مداولات حين رست الفكرة على فلسطين واخذت الصهيونية شكلا اخر، تحولت بين ليلة وضحاها إلى صهيونية بنكهة دينية، وهذا ما نشاهده اليوم من تطرف وسياسات تهويد كما يجري في القدس وأسرلة الضفة الغربية من خلال الزحف الاستيطاني الكبير في ظل وجود حكومة يمينية دينية فاشية تسعى الى تنفيذ مقولة حسم الصراع مبكرا وتنفيذ رؤيتهم الدينية المزعومة ، التي مهدت الصهيونية العلمانية للوصول لها خلال العقود الماضية .
أما على الصعيد الوظيفي فلا احد ينكر ذلك الدور المنوط بدولة الاحتلال وهذا باعتراف قيادتهم ، حيث وجد الغرب ضالته في إسرائيل والعكس صحيح وهو تنفيذ "وعد الرب" بأدوات غربية تحديدا امريكية ، وأفكار مستقاه من التلمود الشفوي المحرف والتوراة المزيفة.
لقد اوغلت الحركة الصهيونية في دماء أبناء شعبنا ، ولم يقتصر الأمر على هذه الحكومة الحالية التي تتعرض لانتقادات المعارضة بشأن فشلها في إدارتها للملف الأمني التي ما زالت لا تقر لشعبنا حقه بتقرير المصير او على الاقل فهي لا تربط بين الاحتلال واوضاعها التي تعيشها اليوم .
ولتسهيل الأمر على بعض من يعتقد ان وجود مصالح مشتركة لفرض الأمن والهدؤ قد تؤدي الى خطوات سياسية ، فان هذا الأحتلال لا يحتاج لمصالح مشتركة ، وهي غير موجودة بالاصل بين محتل وشعب يعاني من الاحتلال . هذا الاحتلال الذي يحب أن تقوم العلاقة معه على قاعدة الصراع حتى انتهائه ، لا يحتاج الى البحث عن ما يُوصف به ولا البحث عن مواصفاته في دهاليز القواميس السياسية . هذا احتلال لا يمكن فيه الأستقرار ولا الأمن ولا التنمية ولا تحسين شروط الحياة في اطار حُسن النوايا وبناء الثقة وفق النظرية الأمريكية لإدارة النزاع .
ما يُرتكب ليس اجراءات احادية الجانب ولا عنف متبادل ، إنما جرائم حرب يرتكبها أحتلال استعماري فاشي بحق شعبنا اصحاب الأرض يتوجب مقاطعته ومقاومته على الأرض وبالمحافل الدولية السياسية وفق المواثيق الدولية . أحتلال يسعى لتصدير ازماته الداخلية الحادة ، لا يحترم ما يسمى بتعهدات أو اتفاقات حتى في ظل ضمانات ، أحتلال يتوجب اقتصار الحديث مع اي طرف ثالث بخصوصه او معه على اليات انهائه كأي أحتلال سبق عبر مسيرة تاريخ الشعوب وكفاحها التحرري حتى ينعم شعبنا بحقه في تقرير المصير والأستقلال الوطني ، هذا هو الطريق الوحيد للحرية والكرامة وللسلام في حال وجد من بينهم من يريد الوصول له ، او عندما يقتنعون هم بتغير الدور الوظيفي لهم .
لكن الصمود والبقاء ومواجهة التحديات امام ذلك لن يتحقق دون مقومات وموارد تضمن العيش الكريم وحقوق المواطنة لشعب يقدم التضحيات الجسام ، كما وضرورات وحدة الحال والابتعاد عن مناكفة الذات حتى نستطيع الانتقال الآن إلى فعل المبادرة في ظل الأوضاع التي تعصف بدولة الاحتلال وافتضاح وصفها بنظام الابرتهايد ، والانتقال الى الهجوم السياسي بدل ردود الافعال في كل المحافل واعلاء صوت مقاطعة دولة الاحتلال ، فهنالك تناقضات اصبحت واضحة في مجتمعهم الغير متجانس والذي لا تنطبق عليه مقولة شعب كما وصف ذلك شلومو ساند استاذ التاريخ بجامعة تل أبيب في كتابه " اختراع الشعب اليهودي " ، تناقضات متنامية وصلت حد الذروة من خلال المظاهرات واعمال الاحتجاج ضد سياسات الانقلاب على القضاء وتعزيز الديكتاتورية ، حيث يرى المتظاهرون فيها حكومة تستند إلى مفاهيم ترامب اليمينة الشعبوية والمتطرفة.
والسؤال يبقى وفق ما يعلق الكاتب والمناضل الصديق جمال زحالقة على هذا الأمر في مقالته الأخيرة بقوله ، "الأزمة الإسرائيلية الحالية، هي واسعة وشاملة وعميقة وكاسحة، وإن تواصلت وازدادت ملامح التمرد في المجال الاقتصادي والأمني والجماهيري، فإن إسرائيل ستكون أضعف وأقل قدرة على الصمود أمام الضغوط والتحديات فهل هناك من سيحشد ضدها الضغوط؟ وهل يفكّر أحد في رميها بالتحديات؟ "