يحقّ للجميع أن يُعربَ عن استغرابه، واندهاشه من هذا المنعطف الكبير الذي أُعلن عنه في العاصمة الصينية (بكين).
ويحقّ «للجميع» أن يشعر بالارتياح من خفض التوتّر بين البلدين، فكيف بالحريّ وأن الأمر يتعلّق بتطبيع العلاقات بينهما؟
ومن الطبيعي أن تعلّق كل المنطقة الآمال الكبيرة بإنهاء الصراع في اليمن، وبالتوافق في لبنان، وفكفكة الملف السوري نحو عودة سورية إلى النظام العربي، وترطيب الأجواء في العراق، وتخفيف الاحتقانات السياسية والطائفية فيها.
إضافةً إلى كلّ ذلك فإن الأمل يمتدّ إلى زيادة التنسيق بين البلدين حيال السياسات النفطية، وزيادة معدّل التبادل التجاري بينهما، وإعادة تنشيط النقل البحري في مضيق «هرمز».
وحتى في الملفّ الفلسطيني فإن هذا المنعطف يمكن أن يساهم في «رأب الصدع الفلسطيني» وإنهاء الانقسام ودعم وإسناد الحق الفلسطيني نحو سلامٍ حقيقي قائم على القانون الدولي والشرعية الدولية.
الجميع يُقرّ الآن بتغير العالم، واحتضار «الأُحادية القطبية»، والتقدم الكبير في الدور «الناعم» للصين، ويعترف الجميع الآن بأن الحرب في أوكرانيا بين روسيا من جهة، و»الغرب» كلّه من جهةٍ أخرى قد دشّنت معالم الحقبة الجديدة، وأن نتائج هذه الحرب ستفتح الطريق أمام منعطفات جديدة كبيرة، وعلى أعلى درجات الأهمية.
لعلّ أهمّ قراءة لهذا الحدث ومحصّلته هي تلك التي «استقرأت» سياقات التحوّلات في العربية السعودية بالتخلص المدروس والمتدرّج من أعباء القيود التي كبّلتها بالعلاقة مع الولايات المتحدة و»الغرب»، وذلك باستغلال الحرب نحو درجة أعلى من «النأي بالنفس» عن الأحلاف والمخطّطات الكونية لـ «الغرب»، وعدم الدخول في أحلافٍ من شأنها تقويض سيادة الدول، أو تهديد أمنها القومي كما جرى بالاستعداء «الغربي» للدولة الروسية واستهدافها.
وجاء هذا المنعطف في سياق «الخوف» و»الوعي» الإيراني للأخطار الداخلية والخارجية التي تهدّدها، وخصوصاً التهديد الإسرائيلي المدعوم في الغالب أميركياً.
وفي هذا السياق جاءت الاستدارات الإيرانية الأخيرة، والمرونة غير المسبوقة التي أبدتها إيران في المحادثات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما أن الأزمة في إسرائيل ربما ساعدت في التوصل إلى «إعلان بكين» حتى ولو أن زاوية النظر إلى هذه الأزمة ليست واحدة.
إيران بسبب تخوّفها من الحرب تريد أن «تضمن» حياد الخليج العربي في حال أن اندلعت الحرب، والسعودية بدورها لا تريد أن تعرّض بلدان الخليج العربي إلى أي أخطار من هذا النوع.
والسعودية قرأت جيداً الأزمة الداخلية وترى أن إسرائيل ليست بوارد «مساعدة أحد» لأنها باتت بحاجة إلى المساعدة، وإيران ترى في هذه الأزمة «فُرصة» لنتنياهو للهروب من هذه الأزمة. ولذلك فإن لكلا البلدين مصلحة بعدم قيام حرب إقليمية، وعدم مشاركة بلدان الخليج فيها، وهنا تكمن مصلحة إيرانية مباشرة.
لكن السؤال يبقى إلى فترة طويلة قادمة: هل يوجد وجهٌ آخر لهذا المنعطف؟ ما هو، وكيف؟
جوابي عن هذا السؤال هو: نعم.
نعم، يوجد وجهٌ آخر، وهو موجودٌ في صلب الأسباب الحقيقية لهذا التحوّل، قبل أن يكون موجوداً في الأسباب المباشرة والراهنة والتي يمكن أن تسمّى طارئة، أيضاً، ناتجة عن المتغيرات الدولية.
علينا أن ندقّق هنا في حقيقة النظرة السعودية لإيران، وفي حقيقة النظرة الإيرانية للعربية السعودية.
هنا علينا أن نتذكّر بأن التحوّلات الدولية الكبيرة في العادة تُرجع الأمور إلى أُصولها، وتولّد حالة وعيٍ ونضج جديد.
الدروس التاريخية لا تتأتى بسهولة، ولا تتمّ الاستفادة منها في حالات التأمل والاسترخاء.
كل التجربة الإنسانية تقول، وتشي، وتفيد بأن التحوّلات الكبيرة، والتي عادة ما تكون باهظة الثمن، والتي تؤدي في الغالب إلى أزمات طاحنة وإلى كوارث اقتصادية واجتماعية، وإلى خسارات هائلة في العنصر البشري، وإلى تبديد الموارد والثروات.. هي التي تُجبر النخب السياسية والاجتماعية، وحتى الثقافية على المراجعة للاستفادة من الدروس.
بل وأكثر من ذلك فإن القيم الإنسانية نفسها لا تترسّخ في الواقع السياسي والاجتماعي إلّا في سياق الحصيلة الاجتماعية للويلات التي يولّدها الصراع على المصالح والنفوذ، والحروب التي تُشنّ للدفاع عن هذه المصالح، ولتكريس الأدوار والمكانة والواقع على خارطة الصراع.
العربية السعودية رأت في «الثورة الإسلامية الإيرانية» تهديداً مباشراً لها، ولدول الخليج العربي الأخرى، بل وحتى للمنطقة العربية كلّها، خصوصاً وأن هذه «الثورة» رفعت لواء «تصدير» «الثورة»، وتحوّلت إيران إلى «مُلهِم» لـ «الشيعة العرب»، وإلى «مُلهِم» سياسي في عموم المنطقة.
هذه هي الأسباب الحقيقية للحرب العراقية الإيرانية، وهذا هو سرّ وقوف «العرب» وراء العراق في هذه الحرب، وهنا تم تقليم أظافر إيران وأطماعها الإقليمية.
بعد «انتصار» العراق في تلك الحرب أراد العراق أن يُكرّس نفسه كقوة إقليمية بديلة لإيران، وأراد من «دول الخليج» أن تقبل بهذا الدور الجديد للعراق.
عندما رفضت السعودية هذا الدور الجديد للعراق، قام العراق بمغامرة واجتياح الكويت، فتحوّل الدور العراقي إلى الخطر الداهم، وبقيت إيران هي الخطر الدائم، وبعد سقوط النظام العراقي عادت إيران لتكون «الخطر» الدائم، وتحوّلت إلى خطرٍ داهم بأن استغلّت سنوات الانشغال الأميركي بالحرب في العراق، وبنت قوتها الذاتية وتحوّل الدور الإيراني من طور «المُلهِم» الثقافي، إلى «الولاء» السياسي، وأصبحت تسيطر عملياً على العراق وسورية ولبنان، وعلى أجزاء كبيرة من اليمن، وفي أتون هذا الوضع المحتدم دخلت إسرائيل على الخط، وتم شلّ لبنان بالكامل، وتمّ تدمير العراق، وتخريب سورية، وأصبحت الولايات المتحدة تبحث عن صيغة لـ «تحالف سنّي» في مواجهة الخطر «الشيعي»، وهو الاسم الحركي للنفوذ الإيراني في المنطقة.
أما إيران، وخصوصاً في المرحلة الخمينية، وإلى ما قبل ولاية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، فقد انتهجت عملياً سياسات للحدّ من «النفوذ السعودي» في المنطقة، ومنع العربية السعودية من التحوّل من الدور الديني إلى الدور السياسي المؤثّر إلى درجة الدولة الإقليمية، ووقفت ضد السعودية حتى بدورها القيادي على بلدان الخليج العربي.
وذهبت إيران إلى حدود المشاركة في تهديد الأمن القومي لمصر، وحاولت الحدّ من نفوذ الدور الإقليمي لتركيا، أيضاً.
والسبب هو أن ما يهمّ إيران، وما تحاول أن تصل إليه كان هو دورها الإقليمي في المنطقة، والاعتراف بهذا الدور وتكريسه، مستخدمةً كل أنواع «التحالفات» التي من شأنها الحفاظ على هذا الدور بالذات.
لم تتغيّر النظرة السعودية لإيران، ولم تتغيّر النظرة الإيرانية للسعودية، والذي تغيّر هو أن «الاستمرار» بالعمل وفقهما لم يعد مُجدياً، بل يُسهم في إضعافهما معاً في الظروف الدولية الجديدة، ويُجرّدهما تماماً من فرصة البقاء كقوى طامحة للدور الإقليمي لكلّ منهما، بل ويمكن أن يطيح بهما إذا لم يحضّر كل طرفٍ نفسه جيّداً للمرحلة القادمة ومعادلات «العالم الجديد».
المحكّ الحقيقي، وإثبات حقيقة «الوعي» عند إيران، وعند السعودية لحقائق «العالم الجديد» هو تخلّي إيران عن الدور السياسي المباشر، وتخلّي السعودية عن معادلة: إما السعودية أو إيران!
من هنا وحتى عودة الأمور إلى المرحلة الجديدة من العلاقات بين البلدين سنرى كيف ستتصرّف إيران حيال ملفات الإقليم، وسنرى نفس التصرّف السعودي حيالها، وحينها فقط يحقّ لنا أن نشعر بالتفاؤل، لأنه حينها فقط نكون أمام حالة «نُضج» افتقدت لها كل منطقة الإقليم.
السعودية تطمح لبناء دولة حديثة لأن الدولة الإسلامية لم تعد تكفي، وإيران خسرت معركة «المُلهِم» الشيعي، وإسرائيل في أزمة طاحنة، وأميركا يفلت العالم من بين أصابعها، فهل نحن أمام حالة وعي، أم تعريجة مؤقّتة؟