وضع الصديق والرفيق أبو وديدة إصبعه على الجرح في تقييمه أزمة التعليم وإضراب المعلمين، وهو المعلم الذي له باع طويل في ممارسة مهنة التعليم. أرى من المفيد التوقف عند الفكرة الجوهرية التي بدونها لا يمكن الوصول الى حل حقيقي. يقول أبو وديدة: المرض هو حال التعليم، والعَرَض هو بؤس حال المعلم، بؤس التعليم يعني بؤس المعلم، والحل يكون باستعادة تعليم حقيقي. ويتساءل: كيف يمكن تفسير انقطاع المعلم عن التعليم؟ وكيف يمكن تفسير لا مبالاة السلطة إزاء توقف العملية التعليمية؟ كيف لبلد بسائر فئاته يقبل وضع إغلاق مدارسه قرابة الشهرين دون تحرك جدي لمواجهة كارثة تجهيل جيل؟
المشكلة إذاً في نظام التعليم ومناهجه وسياساته وإدارته، وهو النظام الذي ينتج أزمة المعلم ويضعه في مكانة دونية اقتصادياً واجتماعياً، ويقيّد عقول الطلبة الأبناء - قوة التغيير والتطوير الافتراضية - في المجتمع، ويعزلها عن حقول العلم والمعرفة، وهو النظام الذي لا يحفز الابتكار والإبداع. وهو النظام الذي يفصل العلم والتعليم عن حاجة المجتمع للتنمية الإنسانية والاقتصادية، فيضاعف من حجم البطالة التي تسير في خط صاعد. لذا فإن أي حلول لا تعود الى جذر الأزمة ستكون عابرة ومؤقتة. هذا يؤكد ما قاله أبو وديدة بأن «بؤس التعليم يعني بؤس المعلم». والمعلم، أحد أهم أعمدة التعليم، المعلم غير البائس، لا يرضى بتعليم بائس، هو معني بتعليم حقيقي متقدم ومتطور بثبات دائم.. وأن أحداً من قطاع التعليم لم يخرج لقرع أجراس ضرورة العودة لإصلاح حال التعليم، على اعتبار أن أزمة المعلمين يحلها تعليم حقيقي جيد، متطور بثبات، متقدم بتسارع».
نظام التعليم الذي تشكل وتكرس في عقود طويلة، لا يمكن تغييره وتجاوز اختلالاته مرة واحدة وفي مدى زمني قصير. فالتغيير لا ينفصل عن فكر وثقافة القوى السياسية السائدة ومراكز القرار السياسي والاجتماعي والثقافي. وفيما اذا تعاملت مع التعليم كأداة سيطرة على الأجيال الناشئة وعلى المجتمع، او إذا تعاملت مع التعليم كرافعة لتطور المجتمع. وبمعنى آخر، ثمة فرق بين مركز قرار يتبنى فكراً ديمقراطياً علمانياً تنويرياً، وبين مركز قرار يتبنى فكراً محافظاً ويرعى التحولات الرجعية داخل المجتمع أو لا يبالي بوجودها. ولا شك في أن المعلمين يتوزعون على ثقافتين الكفة الراجحة للثقافة المحافظة غير المؤهلة للنهوض بالتعليم وخروج المعلمين والطلبة من أزماتهم. وبهذا يصبح الانتقال الى تعليم تحرري صعب المنال وشائكاً، لكن طرحه على بساط البحث من داخل مؤسسة التعليم ومن قوى سياسية ومستوى ثقافي وأكاديمي بات ملحاً وضرورياً.
كيف ننهض بالتعليم هو السؤال الكبير الذي من المفترض أن يحضر دوماً على أجندات قوى التغيير غير الملتبسة. تشكيل لجان مختصة جادة لتطوير الجامعات والمدارس والمناهج وتأهيل المعلمين وتحويل قضية تطوير التعليم الى قضية رأي عام. ويعتقد أن كل تقدم في عمل ومهمات هذه اللجان سينعكس ايجاباً على المعلمين، مقابل ذلك فإن كل مساعي التطوير ستواجه بمقاومة من داخل القوى السياسية ومن داخل المجتمع على حد سواء.
أكدت تجربة الاتحادات الشعبية والمهنية والعمالية السابقة التي تنتمي الى الحرب الباردة، انها لم تعد صالحة ومتلائمة مع مهماتها الراهنة في ظل الأزمات الاقتصادية ومعادلة الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً. ذلك يعود الى ضعف حساسية التنظيم السياسي لمطالب وحاجات القطاعات الشعبية التي من المفترض ان تدافع عنها الاتحادات. وهذا يستدعي ان تكون مستقلة مهنياً وإن كانت متحدة سياسياً على البرنامج الوطني. نحن الآن في زمن استقلال الاتحادات الذي لا يعني إعلان حرب على التنظيمات السياسية. بالعكس ان اتحادات معبرة عن مصالح القطاعات التي تمثلها تعطي زخماً للقوى السياسية وللديمقراطية على حد سواء. ما زالت اتحاداتنا تنتمي للحرب الباردة، وما يزيد الطين بلة أن حركة حماس لا تتعاطى مع الاتحادات، وهي الآن تمنع المعلمين وسائر القطاعات الأخرى من الانخراط في نضال مطلبي وفي الوقت نفسه تؤيد وتشارك في انتخابات وحراكات وإضرابات الضفة الغربية - المحافظات الشمالية – ما يعزز انقساماً مجتمعياً أكثر خطراً من الانقسام السياسي. ان تحول الاتحادات من نظام الكوتا والسيطرة الفصائلية الى اتحادات مستقلة مهنياً، يعتمد على رفع الوصاية الفصائلية وبخاصة وصاية حركة فتح، وعلى تراجع او عزل منطق حماس غير الديمقراطي الانتقائي والانقسامي، وعلى انتشار قيم التحرر والديمقراطية والعقلانية داخل الحراكات الجماهيرية وفي أوساط العناصر المتقدمة. فالنقابة والاتحاد الديمقراطي المستقل مهنياً هو حصيلة لتطور الديمقراطية التي يصنعها ديمقراطيون حقيقيون. ما عدا ذلك فإنه سيعاد إنتاج الأزمات ويتم استبدال سيطرة بسيطرة غالباً ما تكون للأسوأ.
يبدو أن الانتقال الى اتحادات ونقابات مستقلة في ظل أزمة التنظيمات السياسية، يحتاج الى جهود ومحاولات ونضالات عديدة، يحتاج الى عقول منفتحة جديدة، بعض الاتحادات أحرزت مستوى من التقدم كاتحاد المحامين، ربما يحفز نحو المزيد من التقدم. ووجود نقابة ديمقراطية مستقلة للمعلمين لا يتحقق بالإضراب، لا يتحقق إلا على يد المعلمين ومن خلال المعارك الديمقراطية وليس معركة واحدة، ومن خلال حساسياتهم للخسائر ونبض الناس. المعلمون والمعلمات الذين طرحوا مطالب عادلة، وحققوا نسبة مهمة منها. مطالبون بالبحث في سبل الخروج من الأزمة أيضاً. لا ينبغي إضافة خسائر جديدة وتهديد امتحان التوجيهي أكثر وأكثر. مطلوب وقف الإضراب وفي الوقت نفسه متابعة المطالب التي لم تتحقق، وتحديد موعد لانتخاب اتحاد محامين على أسس ديمقراطية وليس انتقامية وبرقابة مستقلة. اعتماد صندوق المعلم بإدارة يشارك فيها معلمون ووازرة التربية والتعليم وشخصيات مستقلة - مثقفين وأكاديميين ورموز موثوقة-. إدارة تضع خطة لجمع التبرعات من الجاليات ورأس المال الفلسطيني والأصدقاء والأشقاء لترجمة علاوة الـ 15% وتحويلها الى واقع، بعيداً عن حالة انتظار المجهول التي تعيشها الحكومة. والاهم من كل ذلك البدء في بحث جذر الأزمة – بؤس التعليم- ووضع آليات للخروج من تلك الحالة الخانقة، هل تكون البداية بحوار العقول؟!.