من غير المتوقع أن تنهي تعهدات نتنياهو بوقف ما يطالب به من «إصلاحات قضائية» الشقاق الداخلي في إسرائيل، خاصة أنه قام باستبدال هذه الإصلاحات بتأسيس الحرس القومي، ما سيعني تحدياً آخر بالنسبة لمعارضي سياسة حكومة اليمين المتطرف التي يقودها نتنياهو.
بالنسبة لنتنياهو فإن إنقاذ حكومته وصمود الحكومة بأي ثمن هو ما يهم في هذه المرحلة، لأنه يعرف أن عودته إلى رئاسة الوزراء بعد أربع جولات متعاقبة من الانتخابات التي لم يفلح فيها تيار في حسم التشكيل الحكومي بشكل مستقر كان تحدياً كبيراً خاصة في ظل محاولات ملاحقته قضائياً. وقيادة نتنياهو للحكومة هو النجاح الذي يجب الحفاظ عليه مهما كلف هذا من تنازلات وتعزيز لقوى اليمين الأخرى.
الإصلاحات القضائية كانت مهمة بالنسبة لنتنياهو من أجل حمايته في المستقبل وضمان بقائه في الحلبة السياسية، رغم أنها تمس جوهر استقلال القضاء الذي يرى فيه خصومه شرطاً من أجل الحفاظ على طابع الدولة المزعوم بأنه ديمقراطي. وعليه فإن القتال من أجل تمرير هذه الإصلاحات والذي كان يمكن أن يكلف نتنياهو ثمناً باهظاً من زعزعة الاستقرار وخلخلة الأمن الداخلي شكل بالنسبة له أولوية في ظل إحساسه بأن خصومه هذه المرة جادون في المساس به، وان هذه الحكومة قد تكون فرصته الأخيرة في السياسة وعليه فإن البقاء فيها أطول فترة ممكنة سيعطي فرصاً لمتغيرات جديدة قد تفرض واقعاً مختلفاً.
بالنسبة لخصومه فإن محاولة الإطاحة به تبدو قريبة خاصة مع تجاوب الشارع وإحساس الجميع بالحاجة للخروج من أجل الضغط باتجاه إلغاء هذه الإصلاحات. هذا صحيح من جهة لكن هناك أيضاً شعورا بأن التلاعب بمؤسسات الدولة قد يعني أيضاً انحيازاً أكثر تجاه هوية خاصة بتلك الدولة، وسؤال الهوية هو اكثر ما تهرب منه النخبة الصهيونية لأنه يعني تعريف الدولة وتحديد شكلها. لطالما كان هذا السؤال الأكثر حساسية في النقاش الصهيوني الداخلي. وعليه فإن أي محاولة لتغيير «الوضع القائم» في بنية مؤسسات الدولة سيعني اضطرارياً الذهاب لتعريف هوية الدولة وطابعها. وهذا صحيح أيضاً لكنه ليس كل الحقيقة في الصراع الداخلي في إسرائيل.
حقيقة الأمر الأكثر قرباً للواقع أن ثمة صراعا بات أكثر وضوحاً بين اليمين واليسار، وربما وللدقة بين سكان المستوطنات وبين الكيبوتس والمدينة. من جهة، فإن مصروفات الدولة على المستوطنات تتحصل من جيوب دافعي الضرائب في الساحل وفي مناطق 1948 فيما يتمتع المستوطنون بحياة ومدفوعات مرتفعة لمجرد أنهم يسكنون هناك وهم ذهبوا هناك لرغبتهم بالاستفادة من تلك الامتيازات. هناك فاتورة باهظة يتم دفعها من أجل رفاهية أقلية تريد بدورها أن تصبغ الدولة بصبغتها. طبعاً هذا لا يعني أن ثمة حدودا قاطعة في النقاش وفي الفصل بين تلك المستوطنات وبين المدينة والكيبوتس ففي النهاية كل ما يوجد هي مستوطنات تم اغتصاب أرضها من أصحابها. ولكن ما أقصده هنا أن هذه الصراع المحدد المعالم جغرافياً هو في طبيعته هوياتي.
في التاريخ البرلماني لإسرائيل، صعد اليمين بقوة في نهاية السبعينيات ونجح بالإطاحة باليسار الذي حكم البلاد منذ النكبة، ومنذ ذلك الوقت واليسار في تراجع واضح حتى كاد  حزب العمل التاريخي يختفي واختفت بعض الأحزاب اليسارية التاريخية مثل «ميرتس». ثم صعدت قوة الوسط كبديل عن انهيار اليسار وعجزه عن استعادة قوته بسبب التطرف المتزايد في المجتمع المتطرف أصلاً. ونجحت قوى الوسط في خلق نوع من التوازن ولكن مؤقتاً إذ إن الصراع مع التطرف كان شديداً وظل حاضراً وبقوة في الدعاية الانتخابية وفي نتائج الانتخابات. ثم جاءت المرحلة الثالثة التي تمثلت في هيمنة المستوطنين على زعامة اليمين وهذه كانت فارقة مهمة. صحيح أن الكثير من أعضاء الكنيست كانوا دائماً من المستوطنين ومن غلاة التطرف الديني ولكن في الانتخابات الأخيرة بات قادة المستوطنين الذين باتوا قادة أحزاب سياسية فاعلة ووازنة في الكنيست هم من يقررون شكل السياسية الإسرائيلية. القصة ليست في صعود اليمين بل في التحول داخل اليمين. التحول الذي عنى أن زمرة من قادة الاستيطان هم من يتحكمون في تحديد شكل الحكومة من خلال تحديد شكل التحالف. أمام هذا فإن صراعاً آخر ظهر للسطح، إنه الصرع الذي أشرنا له والمتعلق بالجغرافيا والهوية.
وعليه فإن امتلاك بن غفير لجيش خاص به سيعني كثيراً في تطورات هذا الصراع، إذ إن تشكيل هذا الجيش سيبدو لخصوم نتنياهو ليس أقل خطورة من تمرير الإصلاحات القضائية لأنه يعني أن ثمة قوة عسكرية أخرى منفصلة عن قوة الدولة وجيشها تأتمر بتعليمات غير صادرة مركزيا عن قيادة الجيش أو الدولة. بالنسبة لبن غفير الذي قطف ثمار معركة الإصلاحات القضائية فإن إنشاء هذا الجيش هو تحقيق لرؤيته بضرورة كف تدخل الشرطة التي اعتقلته قبل ذلك خلال تظاهراته السابقة وجعل قوة أخرى تقرر مصير علاقة المستوطنين بالصراع مع الفلسطينيين.
قد لا يتطور الأمر لحد الاحتراب ولكن هناك صراعا من نوع مختلف سيظهر. المحقق أن الشقاق في إسرائيل لن تحله تفاهمات نتنياهو حول الإصلاحات القضائية مع قادة المعارضة كما لن توقفه توجهاته بإنشاء حرس قومي لبن غفير، سيظل هذا الصراع قائماً وربما لن يحله إلا تشكيل حكومي جديد يدخل الوسط فيه مع نتنياهو من أجل أقل الخسائر، أو دعوة لانتخابات جديدة للكنيست أيضاً قد لا تحل المشكلة لكنها ستدفع بها في اتجاهات أخرى.