كتب ابراهيم نصر الله
رام الله - صدى نيوز - حين بدأت التحضير لكتابة رواية (زمن الخيول البيضاء) عام 1985، التي صدرت طبعتها الأولى عام 2007، لم تكن قضية الصراع الفلسطيني مع الرئاسة اليونانية للكنيسة الأرثوذكسية، جزءًا من مخطط الكتابة، لكن العمل الطويل على الرواية، والحقائق التي ظهرت لي فيما بعد، في أثناء مرحلة البحث، خاصة تلك المتعلقة بقريتي (البريج، 28 كم غرب القدس) فتحت أبوابا جديدة لم تكن على البال.
لقد عانت قريتي كثيرًا من وجود ديْر يقوده يونان أرثوذكس على أراضيها، ومارس هذا الدَّير كل الوسائل الملتوية للسيطرة على أراضي القرية، وهكذا نشب خلاف قانوني بين أهل القرية البسطاء وقيادة الدّير، كان نموذجا للشجاعة والإصرار على إثبات أن الأرض تعود لأهلها.
عدم معرفتي بخلفيات ذلك الصراع، دفعني للبحث أكثر وأكثر، وقد وجدت أن من أكثر الناس نضالا في النصف الأول من القرن العشرين، على هذه الجبهة، المربي الكبير خليل السكاكيني، ومن خلال يومياته عرفت تفاصيل المظاهرات التي نظمها المسيحيون الفلسطينيون ضد قيادة الكنيسة، التي كانت تعمل على أن تستأثر بالمناصب والأملاك وتقصي الفلسطينيين عن أي موقع مؤثر.
لكن، ولأعترف، بقيت خائفًا من الكتابة عن موضوع حساس كهذا! إلا أن حكاية قريتي مع الدّير، بأحداثها الدرامية الكبيرة، وشهادات من عاصرو الحكاية، أمدتني بكثير من الشجاعة للدخول في هذه القضية، وطرحها بجرأة في الرواية، في وقت لم أكن أسمع فيه، خلال الثمانينيات وما بعدها، الكثير عن ذلك الصراع.
في النهاية، وبعد اثنين وعشرين عاما صدرت الرواية، وتوقعتُ أن يتمّ تناول هذه النقطة بالذات، من قبل قراء شعبنا الفلسطيني، مسيحيين ومسلمين، لكن أحدا لم يتطرّق لذلك، مع أن أول احتفال بالرواية كان في مدينة حيفا العظيمة، بتنظيم من دار نشر مكتبة كل شيء، وشارك فيه عدد من أدباء فلسطين: الشاعر حنا أبو حنا، والدكتورة راوية بربارة، والكتّاب والفنانين: سلمان ناطور، رشدي الماضي، سليم ضو، وصالح عباسي.
بقي الأمر كذلك، هادئا، كما لو أنني تطرّقت إلى موضوع متّفق عليه، إلى أن تمّ شراء حقوق الرواية لتحويلها إلى مسلسل تلفزي، وهنا عادت القضية لتلحّ عليّ من جديد، فالمسلسل غير الرواية، لأنه سيدخل كل بيت، وسيغدو مجالا مفتوحا للنقاش الذي قد يخلق بعض الالتباس، إذا ما تمّ الخلط بين المسيحيين الفلسطينيين والقيادة اليونانية للكنيسة الأرثوذكسية. فعدت للبحث في القضية من جديد، بعد أن كلّفتُ بكتابة سيناريو المسلسل، لكي أعدّ نفسي للدفاع عن أي انتقادات للعمل في هذا الخط الدرامي المؤثر الذي يحتل مساحة كبيرة منه.
من الأمور المقدرة، أن أول ما فوجئت به، هو قيام رئاسة الكنيسة ببيع مساحة واسعة من أراضي قريتي للكيان الصهيوني بــ 19 مليون دولار، بعد أقل من عامين على صدور الرواية، ولم يتوقف بحثي، إذ كانت المباني والأراضي الفلسطينية، في كل أنحاء فلسطين، تباع تباعا للصهاينة، وبأسعار منخفضة أحيانا، كأن تلك الأملاك في القدس وسواها، لا قيمة وطنية أو تأريخية أو دينية أو حتى تجارية لها!
في بحث موسع للباحث المحلل السياسي أليف صبّاغ نشر حديثا في مجلة قضايا إسرائيلية (ربيع 2016)، يكتب: (يقارع العرب الأرثوذكس في بلادنا منذ قرون عدة مجموعةً من الرهبان اليونان الذين استولوا على الكرسي البطريركي في القدس، ولا يزال هذا الاستيلاء الذي بدأ منذ عام 1534 – برعاية السلطة العثمانية – مستمرًّا برعاية السلطات السياسيةّ التي حكمت فلسطين جميعها حتى يومنا هذا. وبرغم الصعوبات التي واجهت العرب الأرثوذكس في فلسطين، ولاحقا في الأردن بعد إقامة المملكة، في التصدي لهذا الاستيلاء، فلا يزال هؤلاء يناضلون ويعملون بمثابرة لاستعادة حقّهم في إدارة شؤونهم الدينية وإدارة أملاكهم..)
يورد الباحث هنا مُوثّقا جرائم قيادة الكنيسة، ومن بينها بيع ممتلكات في بيسان والبصة ومعلول والسجرة والبريج التي تم بيع 22 ألف دونم من أراضي القرية الأخيرة للصهاينة عام 1954.
اللافت جدّا، والمحزن للغاية في قضية بيع هذه الأراضي، كما يوثق الباحث، هو صمت الحكومة الأردنية على ذلك، وعدم اتخاذها أي موقف ينصر الفلسطينيين والأردنيين الثائرين على كنيستهم، بدءا من عام 1957، حيث (ألغت حكومة سمير الرفاعي، بالتعاون مع البطريركية، القانون الذي أقرَّ في ظل حكومة سليمان النابلسي، وأقره البرلمان الأردني، وسُنّت قانونا جديدا، مكان القانون الذي تم القتال من أجله قرونا. وصدر القانون الجديد تحت اسم قانون (بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية)، وجاء القانون في مصلحة الأكليروس اليوناني، فأضاع حقوق العرب الأرثوذكس مرّة أخرى.)
الحقيقة التي يجب أن تقال هنا، إن التغافل، أو الصمت، أو الدعم المباشر لقيادة هذه الكنيسة، كان يصبّ، مبكرا، في كارثة تهويد القدس وأسرلتها، في ذلك الوقت الذي كانت فيه القوانين الأردنية توقع عقوبة الإعدام بكل من يثبت عليه جرم بيع أرض للكيان الصهيوني! وبرغم أن السلطة الفلسطينية أثبتت أنها لا تملك سلطة على أي شيء، إلا أن موقفها كارثي في هذا المجال أيضا، قبل أوسلو وبعده. ومن المفارقات الكبرى (أن اتفاقية وادي عربة لم تتضمن أي وصاية أردنية على الأماكن المقدسة المسيحية، كما أن اتفاقية أوسلو لم تتطرّق إلى ذلك بأي شكل من الأشكال.)
الهبّة الغاضبة التي شهدتها مدينة بيت لحم، مسقط رأس السيد المسيح، قبل أيام، ضد البطريرك اليوناني ثيوفيلوس المتهم ببيع الممتلكات الأرثوذكسية للصهاينة، وتسريب العقارات في البلدة القديمة من القدس وفي أنحاء فلسطين كافة، هذه الهبة تعيدنا لدور الشعب الذي لا يجيء الخلاص من الظلم إلا على يديه. لقد رُشق موكب البطريرك بالبيض وحُطم زجاج سيارته، برغم الحراسات كلها التي وفرتها السلطة له، وقاطع رؤساء بلديات بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور مراسم استقبال البطريرك أمام كنيسة المهد، ولم يكن هناك أبلغ من الموقف الشعبي الذي أعلنه أنطون سلمان، رئيس بلدية بيت لحم، حين قال: إن القدس أهم من الاحتفالات بعيد الميلاد واستقبال البطريرك.