شهدت الفترة الماضية، وخصوصًا الأسبوع الماضي، سلسلة من الأحداث التي لا تعكس ميدانيًا تغييرًا كبيرًا، ولكنها لها مغزى كبير مستقبلي؛ إذ تشير إلى نوع من تآكل الردع الإسرائيلي. فقد سقط 20 قتيلًا إسرائيليًا منذ بداية هذا العام، وأكثر من 130 جريحًا، ونفذت عملية تفجير عبوة في مجدو، نفذها فدائي قالت قوات الاحتلال إنه قادم من لبنان، ولا تزال مختلف طلاسم هذه العملية لم تحل بعد، وسيّرت مسيّرة من سوريا ضد إسرائيل وأسقِطَت، وأطلق 34 صاروخًا من جنوب لبنان على إسرائيل، في حادث هو الأكبر من نوعه منذ العام 2006، إضافة إلى إطلاق 3 صواريخ من سوريا على أهداف إسرائيلية في الجولان المحتل، فضلًا عن إطلاق 44 صاروخًا من قطاع غزة على مستوطنات الغلاف.

أين كنا، وأين أصبحنا، وإلى أين سنصل، إذا لم نغيّر أداءنا؟

في المقابل، نفذت القوات الاحتلالية سلسلة من العمليات المكثفة في أوائل نيسان في سوريا، أدت إلى مقتل عدد من الحرس الثوري الإيراني، كما قامت قطعان المستوطنين بمواصلة اقتحاماتها خلال شهر رمضان، خصوصًا منذ بدء عيد الفصح اليهودي؛ حيث نفذت قوات الاحتلال أعمالًا وحشية ضد المرابطين والمرابطات المعتكفين في المسجد الأقصى؛ من أجل تسهيل وتأمين اقتحامات المستوطنين له، تكريسًا للتقسيم الزماني والمكاني الذي بدأ منذ الاستيلاء على حائط البراق، والذي أخذ منحى جديدًا خطيرًا متدرجًا بدءًا منذ العام 2001، وتحديدًا منذ العام 2003، حين قررت الشرطة السماح لليهود بزيارة الأقصى بحراستها، ضمن أعداد قليلة؛ الأمر الذي تفاقم بشدة منذ العام 2015 وحتى الآن؛ حيث زاد عدد المقتحمين للأقصى، لدرجة بلغ عددهم في العام 2021 نحو 34 ألفًا، وفي العام 2022 أكثر من 50 ألفًا.

كما جرى تقسيم استخدام الأقصى زمانيًا بين اليهود والمسلمين، فقد خصصت مواعيد محددة لليهود، من الساعة السابعة والنصف صباحًا وحتى الحادية عشرة ظهرًا، ومن الواحدة والنصف حتى الثانية والنصف ظهرًا، إضافة إلى فترة ثالثة بعد العصر. كما تسعى الجماعات الدينية إلى تخصيص أيام أخرى لزيارة المسجد الأقصى خلال الأعياد اليهودية التي تبلغ 100 يوم في العام، إضافة إلى جميع أيام السبت التي يصل عددها إلى 50 يومًا، فضلًا عن سعيها إلى اقتطاع مناطق وزوايا معينة من المسجد الأقصى، وتخصيصها لليهود، وتحويلها إلى كنائس تقام فيها الصلوات.

كما تطالب وتسعى وتقول صراحة وعلنا مؤسسات جبل الهيكل، التي تبلغ أكثر من 50 مؤسسة، إنها تسعى إلى إقامة الهيكل المزعوم على أنقاض معبد الهيكل، وهو الأمر الذي يرفضه ويفنده الفلسطينيون. ولإظهار الفرق بين ما جرى سابقًا وما جرى هذا العام، نشير إلى الخطأ الفادح من الأوقاف الأردنية، بغطاء من لقاءي العقبة وشرم الشيخ، المتمثل في حصر الاعتكاف بالأيام العشر الأواخر من رمضان، بل يجب أن يتواصل الاعتكاف وبأعداد كبيرة طوال شهر رمضان، وحتى على مدار السنة؛ لأن الاعتكاف ليس مجرد عبادة، وإنما عمل وطني من الطراز الأول، ومن دونه لترسخ التقسيم الزماني والمكاني، وبدأ بالمراحل الأكثر خطورة، ولا بد من ملاحظة أن القمع الوحشي أدى إلى انخفاض عدد المصلين والمعتكفين، وهنا لا بد من معالجة للأيام القادمة وعلى طول الزمن.

وحتى يظهر الفرق بين ما كان يسمى "الوضع التاريخي" وما هو كائن، نشير إلى المسجد الأقصى بمختلف أقسامه، بما في ذلك ساحة البراق (التي باتت حائط المبكى)، في العهد العثماني والانتداب البريطاني وفترة الحكم الأردني، كان مكانًا مخصصًا للمسلمين، أما غيرهم فمسموح لهم من قبل الأوقاف الزيارة بهدف السياحة وليس لممارسة الطقوس الدينية، فما يجري مختلف جدًا عما كان، والخطة باتت واضحة كليًا، خصوصًا منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية؛ إذ دعا الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيش إلى المساواة بين اليهود والمسلمين في استخدام المسجد الأقصى؛ حيث يتمكن اليهود من الدخول من كل البوابات وفي كل الأوقات، وتخصيص أماكن مخصصة لكنس يهودية؛ ما يذكر بما حصل مع الحرم الإبراهيمي في خليل الرحمن.

هدنة أم تصعيد، وحدة الساحات أم جس نبض؟

إذا أردنا أن نتعرف إلى وقائع المقاومة والعدوان خلال المدة من 1-8 نيسان، نورد ما جاء في تقرير مركز عروبة للأبحاث؛ إذ نفذت قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين 247 اعتداء على الفلسطينيين، منها نحو 100 اقتحام لمدن الضفة وبلداتها، و50 اعتداء قام به المستوطنون، أدت إلى ارتقاء 4 شهداء واعتقال 250 فلسطينيًا، فيما شهدت الأراضي الفلسطينية نحو 300 نقطة اشتباك مع الاحتلال ومستوطنيه، منها أكثر من 100 نقطة شهدت مقاومة مسلحة.

هناك من اعتبر ما جرى من إطلاق للصواريخ من لبنان وغزة وسوريا تجسيدًا لوحدة الساحات، وتغييرًا لقواعد اللعبة ولتوازن الردع، في المقابل هناك من روج أن ما جرى محاولة من إيران ومحورها لإنقاذ إسرائيل من أزمتها الداخلية، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وتنذر بتداعيات خطيرة، خصوصًا إذا لم تتوصل الحكومة والمعارضة إلى تسوية خلال الفترة القليلة القادمة.

أما ما جرى، بعيدًا عن التهويل والتهوين، فهو محاولة من المقاومة الفلسطينية مدعومة من حزب الله لجس النبض، واختبار مدى قدرة إسرائيل على الردع ردًا على التصعيد الإسرائيلي في الأقصى وسوريا، في ظل الأزمة غير المسبوقة التي تعصف في إسرائيل، والدلائل على ذلك أن الصواريخ التي أطلقت من لبنان وسوريا كانت من نوع جراد وكاتيوشا، وأسقطت القبة الحديدية معظمها، أما الباقي فسقط في مناطق غير مأهولة، ولم تترتب عليها أضرار كبيرة وخسائر بشرية، وكذلك الرد الإسرائيلي الذي تأخر لساعات طويلة واستهدف ثلاثة مواقع خالية من السكان، وكذلك الرد من قطاع غزة على العدوان الإسرائيلي الذي كان محسوبًا ومدروسًا من الطرفين؛ ما يعكس أن مختلف الأطراف لا تريد الدخول في مواجهات عسكرية كبيرة من دون الامتناع عن مبادرات عسكرية من الطرفين لتحسين موقفهما، وليس من إسرائيل وحدها كما كان يحدث غالبًا فيما بات يعرف باسم "المعركة بين الحروب"، التي استهدفت سوريا وإيران، خصوصًا الأولى بعمليات تخريبية وبغارات وقصف واغتيالات منذ العام 2013.

يعكس فتح الجبهة اللبنانية والسورية إمكانية لبداية تغير في قواعد اللعبة، ناتج من السعي إلى استغلال الأزمة التي تمر بها إسرائيل، والتي أضعفتها، خصوصًا أنها ترافقت مع أزمة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، بما في ذلك المس بقدرتها على الردع، وناجم عن محاولة مواكبة التغييرات التي يشهدها العالم بعد الحرب الأوكرانية، ويشهدها الإقليم، خصوصًا بعد اتفاق بكين الثلاثي، الذي تبعه لقاء على مستوى وزراء خارجية الصين والسعودية وإيران، للشروع في تطبيقه قبل مرور مدة أقل من الشهرين المتفق عليها.

دفع هذا الأمر وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إلى زيارة سرية إلى الرياض، وفق ما جاء في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أعرب فيها عن الذهول والصدمة من سرعة التغيير في العلاقات السعودية مع إيران والصين، التي انعكست على مختلف الملفات، بدءًا بالملف اليمني عبر تسارع الجهود لطي صفحة الحرب، والملف السوري؛ حيث هناك احتمال كبير لمشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في القمة العربية التي ستعقد في الرياض في أيار القادم، وهي بدورها ستنعكس على بقية الملفات: العراقي واللبناني والفلسطيني، وكذلك على الملف النووي الإيراني.

تهدئة أم تصعيد محدود أم تصعيد كبير؟

يجب أن نأخذ في حسابنا ونحن نقيس ونقيّم السيناريوهات المحتملة، أن هناك قيودًا إقليمية ودولية على اندلاع حرب إقليمية، في ظل انشغال العالم بتداعيات الحرب الأوكرانية، وتصاعد المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، فالسعودية تريد تهدئة حتى توقف الاستنزاف من الحرب اليمنية، واحتمالات الحرب مع إيران، وهي تريد أن تمضي في تطبيق مشروع نيوم ورؤية 2030، وأيضًا في ظل الأزمة الإيرانية الناجمة عن استمرار الحصار والعقوبات والاحتجاجات الداخلية، وتعثر المفاوضات حول الملف النووي، وفي ظل الأوضاع الكارثية التي يمر بها كل من سوريا ولبنان، وحاجتهما إلى التهدئة للإعمار، واستكمال تحرير سوريا، وتنصيب رئيس للبنان، واستخراج النفط والغاز.

ولكن القيود على الحرب الإقليمية لا تمنع، بل تحتمل أشكالًا من المواجهات العسكرية على غرار ما جرى في الأسبوع الماضي، وأكبر وأصغر منها، شريطة ألا تصل إلى حرب كبرى، مع أنه لا توجد ضمانة 100% ألا تصل.

وما يعزز هذا السيناريو أن إسرائيل مع أنها باتت أضعف، وتراجعت مكانتها الإستراتيجية كما توصلت مراكز أبحاث وكتاب وقادة إسرائيليون، لكنها لا تزال قوية، وعند اللزوم ستحظى بدعم أميركي يتجاوز الخلاف مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، فالتحالف الأميركي الإسرائيلي عضوي، وحاجة واشنطن إلى تل أبيب زادت في ظل اختيار دول الخليج تطبيع علاقاتها مع إيران وتركيا، وتنويع علاقاتها الإستراتيجية؛ حيث لا تقتصر على الحليف الأميركي، بل باتت تنسج علاقات قوية مع الصين وروسيا.

على الرغم مما سبق، لا يجب إسقاط احتمال أن تقوم حكومة الاحتلال بتوجيه ضربة عسكرية كبيرة لساحة من الساحات، والمرشح الأكبر ساحتا الضفة وغزة (إحداهما أو كلتاهما)، مع استمرار استهداف سوريا، ولكن ليس الآن، بل بعد أيام أو أسابيع عدة، بعد انتهاء فترة الأعياد، إذا لم تفرض أحداث الإسراع أو التأخير، حتى لا تترسخ وحدة الساحات والجبهات، وحتى تحافظ الحكومة التي وعدت بالحسم والقضاء التام على المقاومة الفلسطينية لتصبح أضحوكة الإسرائيليين في الحكومة والمعارضة قبل غيرهم؛ ما يقتضي تمرير ما تبقى من شهر رمضان بأقل مواجهات ممكنة.

ومن يطلع على حجم الغضب من الردود الإسرائيلية الضعيفة من بين أوساط في الحكومة والمعارضة، وعلى المطالبات من قيادات بارزة في الحكومة في الليكود وحزب الصهيونية الدينية بتنفيذ اغتيالات وعمليات سور واقٍ في نابلس وجنين، ومواصلة وتسعير المعركة بين الحروب في سوريا؛ يدرك أن هذا السيناريو وارد جدًا، (سيناريو الاستفراد بساحة الضفة أو غزة أو سوريا أو كلها)، ويجب الاستعداد له، خصوصًا بعد أن استدعى جيش الاحتلال قوات من الاحتياط، وبعد أن التقى رئيس الحكومة مع زعيم المعارضة مرتين لتقديم إحاطة أمنية له، وضمان وقوف المعارضة وراء الجيش والحكومة، وفي ظل تراجع الليكود والأحزاب المشاركة في الحكومة تراجعًا حادًا في وزنها، كما تشير استطلاعات عدة؛ ما يعزز حاجة الحكومة إلى ترميم نظرية الردع التي تضررت، ويزداد هذا الاحتمال إذا ما تواصلت عمليات إطلاق الصواريخ من القطاع، وعمليات المقاومة الموجعة في الضفة، واتضحت علاقة أو مسؤولية الفصائل في غزة عنها. والسؤال هو: إلى أي حد ستسمح إيران وحزب الله بالاستفراد بالساحة الفلسطينية وسوريا؟