يقول الكاتب الإسرائيلي عمير رابوبوت في مجلة «اسرائيل ديفينز»، إن كل اللاعبين الإقليميين هم اليوم في ذروة الصراع على قواعد لعبة جديدة تستطيع أن تؤثر في الأعوام القادمة.
فما هي طبيعة التغيير القائم والمحتمل؟ اعتقدت المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية أنها تستطيع إقامة علاقات تطبيع مع دول الخليج، علاقات ترقى إلى مستوى تحالف وتعاون اقتصادي وأمني فوق المألوف، في الوقت الذي يتم فيه فرض حل تصفية القضية الفلسطينية الذي عبرت عنه صفقة القرن، المترافق مع محاولات تبريد الصراع الفلسطيني باستخدام العامل الاقتصادي والردع الأمني.
ثبت عقم هذه السياسة والدليل على ذلك أن القضية الفلسطينية بقيت في صدر المشهد السياسي، وإن اعتورها ضعف الحضور بعض الوقت.
العامل الأساسي في حضور القضية كان حيوية الشعب الفلسطيني بمختلف مكوناته وتمرد الأجيال الجديدة ورفضها الاستجابة للعروض الخادعة لحل أزماته المعيشية.
لا شك في أن الرفض الشعبي الفلسطيني لسياسات الإخضاع تعزز وتعمق رداً على صعود اليمين الإسرائيلي العنصري الفاشي لسدة الحكومة الإسرائيلية والذي اعتمد سياسة الحسم على الأرض، من خلال تكثيف الاستيطان والتطهير العرقي وانتزاع حصة في المسجد الأقصى.
لعب تحالف نتنياهو مع الكهانيين العنصريين دوراً في الإخلال بالمعادلة في علاقاته مع الحلفاء الجدد من دول الخليج، لجهة دخول كل اللاعبين الإقليميين على خط الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومحاولة استخدامه في تعزيز النفوذ والمكانة.
وأدى إلى تأجيج مزاج الشعوب العربية والإسلامية ضد دولة الاحتلال وهي تحاول حسم السيطرة على ثاني أهم مركز مقدس للمسلمين.
العنصر الجديد الأخطر هو محاولة معسكر نتنياهو القومي الديني تصفية القضية الفلسطينية في سياق ديني ما أدى إلى استفزاز الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية.
هذا السياق ينتمي إلى العصور السحيقة ومن شأنه أن يقود إلى صراعات دينية داخل وخارج فلسطين، ومن شأنه أن يقطع الطريق على الحلف الجديد الإسرائيلي الخليجي العربي والدول العربية التي أبرمت اتفاقات سابقة ولاحقة.
ماذا عدا على ما بدا، نجحت المؤسسة السياسية والأمنية الاستعمارية في تدمير ثقافة الحل السياسي العادل وشبه العادل وحتى أي حل غير عادل لكنه يحتمل التطور التدريجي إلى حل مقبول فلسطينيا.
حصل النجاح بفعل السياسات الإسرائيلية التي قوضت مقومات الحل على الأرض بما في ذلك قوضت صلاحيات السلطة وحولتها إلى سلطة عاجزة.
فقد أصبحت أكثرية الشعب الفلسطيني ضد إقامة دولة فلسطينية، أو ضد حل الدولتين. وأغلبية فلسطينية متعاظمة غير مقتنعة بالمفاوضات بل هي معادية للمفاوضات، وتؤمن بأن البديل هو العودة للعمل المسلح وأي مقاومة للمحتلين.
المزاج العام الفلسطيني لا يقيم أي اهتمام للأمم المتحدة وقراراتها التي أفضت إلى لا شيء، وأصبحت بلا قيمة ولا أهمية.
السؤال الأهم لماذا دفعت حكومات إسرائيل المتعاقبة هذا التحول في المزاج وفي الاستقطاب الفلسطيني؟ إذا كانت دولة الاحتلال تخشى المقاومة المسلحة وتتعامل مع التنظيمات والأفراد الذين يمارسونها باعتبارهم «إرهابيين ومنظمات إرهابية خارج القانون»، وإذا كانت دولة الاحتلال تعتبر القوى التي تدعو إلى دولة إسلامية أو دولة فلسطينية على كامل أراضي فلسطين التاريخية تهدد وجودها برمته. إذا كان ما ذكر هو واقع الممارسة والنهج الاسرائيليين، فلماذا تحرص إسرائيل على دفع الكتلة الفلسطينية الأكبر إلى الاستقطاب في خندق رفض وجودها؟ لماذا أخرجت تلك الكتلة مع سبق الإصرار والترصد من قبول الحل الوسط بسقف قرارات الشرعية الدولية إلى رفضه والاستقطاب في خندق ما تسميه التهديد الوجودي؟
لم تكن السياسة الإسرائيلية للحكومات المتعاقبة خطأ حسابيا أو فنيا، فالمؤسسة الإسرائيلية ترفض الحل الدولي جملة وتفصيلا للقضية الفلسطينية رغم انحيازه لها، ورغم الدعم الهائل والتحالف الاستراتيجي بينها وبين الدول المهيمنة وزعيمتها الولايات المتحدة.
بصريح الكلام يأتي الرفض الإسرائيلي للشرعية الدولية والقانون الدولي والحل المنبثق عنهما انسجاما مع الأطماع الكولونيالية والأيديولوجيا التعصبية. وكي يكون الرفض الإسرائيلي مقبولا أو مفهوما على صعيد كوني، وكي يكون قمع وقتل المزيد من الفلسطينيين، وكي يكون الطرد من القدس والأغوار – التطهير العرقي – على طريق طردهم خارج وطنهم كاحتمال مطروح في أجندات منظمات إرهابية يهودية وأعضاء كنيست ووزراء وجنرالات. من أجل ذلك فهي حريصة على تقديم الفلسطينيين بصورة متطرفة معادية لليهود وتدعو إلى قتلهم والخلاص منهم، وعبر ذلك تبرر حربها المفتوحة ضدهم، والأهم تبرر إنكارها لحقوقهم السياسية والمدنية وتبرر تنكرها للقانون الدولي الذي ترى أنه لا ينطبق عليهم.
وبهذا المعنى لا يهم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تطور المؤسسة الفلسطينية ولا يهمها وجود ديمقراطية وقوانين وأنظمة فلسطينية تواكب التطور في القوانين الدولية، وفي الوقت نفسه ترفض أي نمو اقتصادي فلسطيني يساهم في خروج فلسطين من علاقات التبعية الشديدة وتحقيقها لأي شكل من الاستقلال.
انسجاما مع ذلك ما يهم الدولة المستعمِرة هو تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني وقطع الطريق على حقه في تقرير مصيره دون وصاية.
في وصف الحالة سبق لداعية السلام الإسرائيلي «يوري أفنيري» أن قال: كان سلاح الرفض الفلسطيني يعادل في أهميته السلاح النووي الإسرائيلي لأنه ساعد إسرائيل في التنصل من الدخول في أي حل، وقد تمكن عرفات والقيادة الفلسطينية من تحييده بموافقتهم على قرارات الشرعية الدولية.
منذ ذلك الوقت عملت الحكومات الإسرائيلية كل ما في وسعها لتفادي تبعات الموقف الفلسطيني الذي عبرت عنه وثيقة إعلان الاستقلال، وساهمت إسرائيل بسياساتها المتوحشة والمتعنتة في دفع التحولات السياسية والمجتمعية الفلسطينية للخروج من بوتقة العقد الوطني والاجتماعي – وثيقة إعلان الاستقلال - والدخول في حالة من فوضى المعايير وهو ما نشهد ذروته راهنا.
البعض عبر عنه بالانتصارات العسكرية الربانية وتوازن الردع، وآخرون عبروا عنه باعتماد المقاومة المسلحة أسلوبا رئيسا وربما وحيدا، في الوقت الذي تبرم فيه الهدن معظم الوقت، والبعض عبر عنه بإزالة برنامج إقامة الدولة الفلسطينية – البرنامج المرحلي - عن الطاولة في الوقت الذي تتبنى فيه حكومة المستوطنين نفس الهدف، ومواقف أخرى كان آخرها قيام عرين الأسود بإصدار حكم الموت على متهم وتنفيذه بمعزل عن جهات الاختصاص وبمعزل عن السلطة.
حدث ينبىئ بعودة زمن إقامة القانون باليد وتعميمه حيث يستطيع أي مسلح محاكمة من يرغب وقتله تحت عنوان التخابر مع العدو!.
كم نسبة الضحايا الذين سقطوا بهذا الأسلوب أواخر الانتفاضة الأولى باعتراف التنظيمات السياسية؟
بقي تساؤل مشروع، لماذا لا نتحول نحن بما يخدم المصلحة المشتركة ولا نقبل بتحويلنا عبر تدخلات الاحتلال أولا أو عبر تدخلات القوى الباحثة عن نفوذ. لماذا لا نسعى إلى تغيير قواعد الصراع استناداً لمصلحة الشعب الوطنية والوجودية، دون أن نكون أداة لتغيير قواعد لعب الآخرين.