خلصنا، قبل أسبوع، إلى فرضية أن الحلف الإبراهيمي يمثل رأسمالية عالمية متعددة الرؤوس في الإقليم، وأن في حقيقة كهذه، وتداعياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ما يخلق مشتركات جديدة بين كفاح الفلسطينيين ضد الكولونيالية، وكفاح الحواضر العربية ضد أنظمة الطغاة، وروافعها الاجتماعية الطفيلية، التي تشتغل في خدمة الإبراهيميين، ولا تمثل بالحد الأقصى أكثر من 10 بالمائة من إجمالي عدد السكّان.
يحتاج هذا السيناريو إلى بضعة عقود إضافية لتكتمل ملامحه، وقد استدعى سلسلة حروب (فعلية لا مجازية، ولن تتوقف في وقت قريب) بدأت بتدخلات عسكرية ودعائية ومالية سافرة، وتحشيد لقوى الثورة المضادة، قبل ما يزيد على عقد من الزمن، لإجهاض موجة الربيع العربي المبارك، وهذا ما تحقق، فعلاً، وفي السياق تدهورت كل الحواضر، بعضها سقط في درك الحرب الأهلية كما حدث في سورية، وليبيا، واليمن، والبعض الآخر يعاني من الإفلاس والدكتاتورية وانسداد الأفق.
الكلام عن واقع قيد التشكيل، في سيناريو كهذا، لا يعني أنه سيتحقق بحذافيره، بالضرورة، بل يحرض على وضع كل ما نرى من أحداث تبدو للوهلة الأولى واهية الصلة، فوضوية وغامضة وغير مترابطة، في إطار تفسيري مُوحّد لمشروع رأسمالية متوحّشة، متعددة الرؤوس، وحروب عديمة الشفقة، في الشرق الأوسط.
وبما أن الحياة لا تبخل علينا بالشواهد فلا نحتاج إلى أكثر من التدقيق في صراع على السلطة في السودان، يدور بالرصاص في وضح النهار، بين الجيش النظامي، وميليشيا "الدعم السريع"، وكلاهما من أدوات الثورة المضادة، ووكلاء الإبراهيميين، وهؤلاء لا يصعب العثور عليهم على جانبي خط التماس. حتى الكلام علانية عن محاولة الوساطة الإسرائيلية لم يعد مُحرجاً لشركائهم المحليين والإقليميين فوق الطاولة وتحتها.
يمكن تفسير ما يحدث في السودان بالمجتمع القبلي، وبنية الجيش والنظام السياسي في دولة ما بعد الاستقلال، بل وقد يذهب البعض، بطريقة عبثية وسخيفة تماماً، إلى حد الكلام عن النهاية الدموية لصداقة متينة جمعت بين البرهان ونائبه حميدتي ذات يوم (يعني تحويل الصراع السياسي إلى ميلودراما على طريقة المسلسلات).
ومع ذلك، هذا لا يكفي. الصحيح أن القراءة الموضوعية تسوّغ الكلام عن الأسباب البنيوية، في هذه الحالة، وحالات مشابهة، كعوامل مساعدة، وتفاصيل محلية تتموضع كبيئة صالحة لمشروع أكبر يسعى أصحابه لاقتسام مناطق النفوذ في العالم العربي، والإقليم، واقتسام الغنائم (الغنيمة السودانية: أرض زراعية، ومناجم ذهب، وجنود يمكن استخدامهم كمرتزقة، وجغرافيا ذات قيمة استراتيجية عالية).
على أي حال، تكلمنا، في معالجة سبقت، عن فرضية مارك لنش، أستاذ السياسة الأميركي عن "نهاية الشرق الأوسط"، وما طرأ من تحوّلات جيو - سياسية يُفسّرها نشوء مراكز جديدة للرأسمالية العالمية في الإقليم. وبقدر ما أرى، فإن سلام إبراهيم، وحلفه، هما الترجمة السياسية والعسكرية والاقتصادية لفرضية كهذه، وما ينجم عنها، ويتصل بها، من حروب، وإعادة تموضع (نراها على الجبهات اليمنية والسورية والإيرانية في الآونة الأخيرة) وتنافس على الغنائم والنفوذ، ناهيك عن تداعيات وثيقة الصلة بالمسألة الفلسطينية، بطبيعة الحال. أما الترجمة الأيديولوجية فتطل عليكم يومياً من شاشة التلفزيون، وتقطر من الكلام عن النهايات المأساوية لصداقات حميمة، أو عودة العلاقات الرومانسية بعد عداوات طارئة ولئيمة.
في كل ما تقدّم ما يأخذنا إلى فرضية لافتة وموحية لدى لنش بشأن "تلاشي" أهمية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في العالم العربي، فحركة البي دي إس، مثلاً، تحظى باهتمام في الجامعات الأميركية، وأروقة الكونغرس، أكثر مما نالت في الشرق الأوسط. وبالقدر نفسه، والكلام للمذكور: بقدر ما يتعلّق الأمر بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تحوّلت أوروبا، والأمم المتحدة، ومحكمة الجنايات الدولية، إلى ساحات صراع أكثر مركزية من العواصم العربية، وبينما تحظى القضية الفلسطينية بدعم غير مسبوق في الغرب "فنادراً ما هبط التعاطف معها في العالم العربي كما يحدث الآن".
وما يعنيني، بشكل خاص، يتمثل في أولوية ومركزية الساحات، ولا بأس من تفسير ما يرى فيه لنش تلاشياً لأهمية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
الواقع أن كل كلام عن "العالم العربي" و"الأمة العربية" و"الإسلامية" (طبعاً) ينطوي على مسكوت عنه، ومغالطات، وعلى قدر لا بأس به من التواطؤ والابتزاز.
فثمة تباينات تاريخية وثقافية وسياسية، وخصوصيات تتعلّق بتشكّل الدولة والمجتمع، والعلاقة بالأزمنة الحديثة، وكلها لا تبرر الكلام بثقة كافية عن كيان مُفترض مُوحّد الخصائص والقضايا والمصالح، ولا عن إلغاء الفرق بين الهوامش والمراكز الحضرية والحضارية.
وعلى مقلب آخر، لم تنجم أهمية المسألة الفلسطينية عن معطى قومي أو ديني سابق، بل نجمت عن مركزية وثقل المثلث المصري ـ الشامي ـ العراقي، في "العالم العربي"، وقوّته المادية والناعمة، وقدرته الهائلة على التأثير، بل وحتى إلحاق الأذى إذا استدعى الأمر، وعن علاقته العضوية بحكم الجغرافيا السياسية، والمصلحة القومية الاستراتيجية، بالمسألة الفلسطينية، ناهيك عن الصدمة التي أثارتها موجة اللاجئين الفلسطينيين، وفعاليتهم السياسية، وقدراتهم التنظيمية، التي وجدت بين أضلاع المثلث الذهبي أرضية خصبة، وحاضنة مثالية، رشحتهم ليكونوا مُبشّرين وجنوداً مخلصين لنزعات قومية ويسارية راديكالية تماماً ومُزعزعة.
ومع ذلك، يصعب استنساخ تجربة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والرهان عليها، وانتظارها في يوم قادم، نتيجة ما طرأ على الإقليم والعالم من تحوّلات. فما من خلفية محتملة أكثر فعالية من مشتركات العلاقة العضوية بين كفاح الفلسطينيين ضد الكولونيالية، وكفاح الحواضر العربية نفسها ضد أنظمة الطغاة دفاعاً عن السيادة الوطنية، والتوزيع العادل للثروة، والنظام الديمقراطي، وحقوق الإنسان. وهذا ما سيأتي الكلام عنه في معالجة لاحقة. فاصل ونواصل.