قلتُ لمن سألني: كيف كنتم تصومون رمضان في زمانكم؟
كنا نصوم ونفطر كل يوم على وجباتٍ طبيعية مصنوعة باليد خالية من النكهات الصناعية والزيوت المهدرجة، والمواد الحافظة، والأغلفة البلاستيكية والمشروبات جالبة الأمراض، نأكل الفواكه في أوان نضجها الطبيعي، بلا تجميد أو تبريدٍ أو تغليف، كنا نصوم ونحن لا نملك كهرباء أو أجهزة لحفظ الطعام، كنا نُخزن اللحوم داخل الدهن الحيواني المُذاب ونحفظه في الأوعية الفخارية وهي طريقة طبيعية للحفظ، وعندما كنا نطبخ الأطعمة نضع قَدْراً يسيراً من هذه اللحوم والدهون المحفوظة على وجبات الطعام!
كذلك كنا نغتنم فرصة الصيف لنجفِّف الطماطم الطبيعية وكل الثمار في الشمس، وهي طريقة الحفظ السليمة، ثم نستعيدها في قدور الطعام لنحصل على مذاقها اللذيذ!
كان الجيران يتبادلون ما يطبخونه صحنا بصحن، يسعدون وهم يتذوقون طعام جيرانهم، يُنعشون بهذا التقليد روحَ المحبة والترابط!
كانت الصلوات والأدعية بسيطةً سمحة لا تستغرق وقتا طويلا، كنا نجد أعذارا لمن لا يستطيعون الصيام، كنا بصيامنا نرجو الثواب من الله، ولا نبحث عمن يُفطرون في شهر رمضان لنلوك سيرَهم ونحكم عليهم بالكفر بالنيابة عن الله سبحانه!
كانت المسافةُ بين الإفطار والسحور بلا أضواء كهربية مشحونة بجلسات الترويح والترفيه على وقع صوت المذياع، كانت الأسرجة الكازية تجمع تحت ضوئها الخافت الأصدقاء والأقارب والجيران حيث تُسردُ الحكايا والقصص!
ما أروع المسحراتي عندما يدق بعصا صغيرة على طبله الرنان وهو يشدو: «اصح يا نايم، وحِّد الدايم « كان المسحراتي لا ينتظر أجراً من أحد إلا ما يجود به المانحون»
أما في ألفيتنا الثالثة حوَّل بعضهم مهنة المسحراتي إلى مهنة تجارية لجني أكبر قدر من الربح المالي، أصبحتْ هذه المهنة مكروهة من الصائمين، لأنهم وظَّفوها لابتزاز الصائمين وإحراجهم لدفع المال على وقع الطبول وطرق الأبواب!
كان الصيامُ في زمننا أكثر قرباً من حكمة الصيام الحقيقية، لم نقلب معادلة الحياة، كما يحدث اليوم، أي، أن يسهر الصائمون حتى السحور، ولا ينامون إلا بعد الفجر تجنباً لمشقة الصيام، بل كنا ننام ونصحو كما نفعل في غير رمضان!
أفسدتْ دولٌ عديدة الحكمة من الشهر بتخفيض ساعات العمل، واعتبرت بعضُ الدول الشهر بكامله إجازة مفتوحة، هذا هو الطقس السائد اليوم في معظم بلدان المسلمين، على الرغم من وجود أجهزة التكييف والتبريد!
هكذا غيَّر أهلُ رمضان شهرَ الاقتصاد إلى شهر بطرٍ وإنفاق، غيّروه من شهرٍ يفرح فيه الدائنون بسداد ديونهم، إلى شهرٍ إنفاقٍ وتبذير تَغرقُ فيه الأسرُ بالقروض والديون! أصبح شهر رمضان في الألفية الثالثة عبئاً ثقيلاً على ميزانيات الدول، بما يُناقض الحكمة من الصيام! سمعتُ وزيرَ اقتصادٍ في دولة مسلمة يُبشر الصائمين قبل بداية الشهر بمضاعفة الاستيراد لكل المواد، وعلى رأسها اللحوم من أستراليا والأجبان والألبان من فرنسا وهولندا، والدقيق من روسيا وأميركا وأكرانيا، ومما قاله وزير الاقتصاد: «يستهلك شهرُ رمضان ميزانية الدولة، بمقدار ثلاثة أشهر من السنة، بسبب زيادة إقبال الصائمين على استهلاك الطعام»!
هكذا اختفت الحكمة الفُضلى من شهر الصيام، وانتفتْ منه حكمةُ الاقتصاد والتوفير، والإحساس بالضعفاء والفقراء، ليصبح شهرُ رمضان في معظم بلاد المسلمين شهر تبذير وإنفاق على الشهوات!
أخيراً، لا تنسَوْا أن كلَّ المسلمين يُصدقون نشرات الأحوال الجوية العلمية، ويُتابعونها يومياً، ويرصدون أيامهم وأوقاتهم بالأجهزة الإلكترونية، ولكنهم في الوقت نفسه لا يؤمنون بولادة شهر رمضان وفق المراصد العلمية، فما يزالون حتى اليوم يؤمنون بأن رؤية هلال شهر رمضان لا يمكن أن تُصدَّق إلا بالعين المجردة، وحبذا لو كان الرائي يقف فوق جبلٍ بعيد، ليزف البشرى لكل المسلمين برؤية لحظة ولادة الهلال... بالعين المجردة فقط!