صدى نيوز - قال أبرز الكتاب والمحللين الإستراتيجيين الإسرائيليين، الصحافي آري شفيط إن هناك إحساساً يتشارك فيه مع ملايين الإسرائيليين، بأن شيئا رهيبا يحدث، ويهدد وجود إسرائيل.

جاء ذلك في كتاب له بعنوان "إنقاذ إسرائيل" تطرق فيه إلى خراب الدولة اليهودية الأولى والدولة اليهودية الثانية (الهيكل الأول والثاني) والتي كانت كان نتيجة أزمات داخلية أيضا.

ولأن شفيط ليس واحدا من ملايين فقط، فهو يقدم محاولة لفهم الأزمة الإسرائيلية الداخلية كشرط للتعاطي الشجاع، كما يقول، مع الكسر الذي وقع، والذهاب إلى المصالحة والتوحد، وإعادة توحيد العهد المشترك وبناء السلام الداخلي، وهو ما يتطلب، برأيه، من إسرائيليي عام 2023، إعادة بناء الدولة التي بناها إسرائيليو عام 1948.

الكتاب يقسم إسرائيل زمنيا إلى ثلاث جمهوريات، وهو يرى أن الجمهورية الإسرائيلية الشابة فعلت، في الخمسينيات، ما لم تفعله "أمة" أخرى، حيث استوعبت أعدادا إضافية من السكان أكبر من العدد القائم، وأنها بعد بضع سنوات أقامت دولة اليهود، في ظروف مستحيلة، وهي خلال عقدين من الزمن انتصرت في ثلاث حروب، وأقامت مئات القرى وعشرات المدن، ودزينة مستشفيات، وخمس جامعات.

كما أنها، وفق الكاتب، عززت أمنها بواسطة الجيش والصناعات العسكرية والمفاعل النووي في ديمونة، ورسخت ديمقراطيتها بواسطة انتخابات نزيهة، وقضاء مستقل، وصحافة حرة، ومجتمع مدني حيوي، كذلك بنت قوة اقتصادية بواسطة التعليم العالي والبحث العلمي، والصناعة المتطورة، والزراعة الحديثة؛ كما بنت قوة اجتماعية بواسطة مؤسسات التكافل الاجتماعي، مثل التأمين الوطني وصناديق المرضى؛ وهكذا تحولت إسرائيل خلال جيل واحد من دولة متداعية وفقيرة إلى دولة حديثة مستقرة، وتعجّ بالحياة.

ولكن شفيط لا يكتفي بإغداق المديح على ما يسميها بالجمهورية الأولى، فهو ينتقد كون "إسرائيل الشابة" كانت مركزية زيادة عن الحد، متجبرة زيادة عن الحد وعلمانية - اشتراكية زيادة عن الحد، وأنها لم تحترم الأفراد والأقليات والتقاليد وحقوق الإنسان بما فيه الكفاية، وقد ارتكبت أخطاء كبيرة في تعاملها مع المهاجرين الجدد (الشرقيين) الذين وصلوا في موجة الهجرة الكبرى، وأُسكنوا في "المعبروت".

كما أنها بوصفها أوروبية أشكنازية، كما يقول، لم تبدِ تفهّمًا تجاه قيم وموروث الشرقيين والمتدينين والتقليديين، أي أنها لم تبد تفهما تجاه احتياجات وأحاسيس وضائقة نصف سكانها. إسرائيل الأولى بقيادة حركة العمل، قوّضت صلاحية الأغلبية ومكانة الأب، ومناعة الجالية، ولم تكافح مظاهر العنصرية البشعة والتمييز والإقصاء. كما أن الكسر الذي تعاني منه اليوم ينبع من أنه في العقدين الأولين لقيام الدولة، جرى التسبب بظلم ومعاناة لمئات الآلاف من السكان الذين تحولت لديهم عملية "القدوم المسيحاني إلى أرض الإباء" إلى صيرورة محبِطة من الانكسار والألم والغضب.

ويضيف: عام 1977، انفجر هذا الغضب، وأحدث الانقلاب (صعود الليكود بزعامة بيغن للحكم) لتبدأ مرحلة إسرائيل الثانية، وخلال فترة قصيرة تحولت إسرائيل إلى يهودية أكثر وإلى تقليدية أكثر، وإلى شرقية أكثر، وقد قام الحُكم الجديد بحق، بدمج إسرائيل الثانية بشكل كامل بكل مؤسسات الدولة، وهو ما يُعتبر بمثابة فتح الباب لإسرائيل الدينية - القومية، ولإسرائيل الحريدية.

ولكن بعد 45 سنة من الانقلاب، واصلت إسرائيل، وفق تشخيص شفيط، الحفاظ على توازن هرتسل القائم في أساسها، في عهد مناحيم بيغن، ويتسحاق شمير، وأريئيل شارون، وبنيامين نتنياهو، حيث حرص الليكود على أن تكون إسرائيل قومية وليبرالية في الوقت ذاته، فتمّ الحفاظ على مكانة المؤسسات الرسمية متمثلة بجهاز خدمات الدولة؛ الشرطة والجيش إلى جانب الحفاظ على استقلالية جهاز القضاء والمحكمة العليا، ومؤسسات التعليم العالي، والصحافة والإعلام.

كذلك تم توسيع الحفاظ على حقوق الإنسان وحقوق المواطن والأقلية ولم تجرِ -برأي شفيط- أي محاولة لتحويل دولة اليهود إلى دولة شريعة "قومجية"، كما لم يتعرض المجتمع الحرّ والمجتمع المدني لأي هجوم، وفي وقت ازدادت إسرائيل عظمة، كانت دولة منفتحة حيوية مزدهرة ومتعددة الأوجه أيضا.

شفيط لا يبخل بالنقد أيضا على جمهورية إسرائيل الثانية التي قادها الليكود منذ عام 1977، وهو يشير إلى ارتكابها العديد من الأخطاء الصعبة، حيث كرست وضعا لا توجد فيه حدود مع شعب آخر، ولا يوجد حيز محدد فيه أغلبية يهودية ساحقة، وبذلك تدهورت إسرائيل إلى واقع دولة ثنائية القومية، من شأن اليهود أن يتحولوا فيها إلى أقلية. كما أن إسرائيل الثانية، لم تتعامل مع حقيقة أن الدولة الإسرائيلية ضعفت، وأن المجتمع الإسرائيلي تفكّك إلى أسباط.

كذلك، لم يتم دمج "الأقلية العربية" و"الأقلية الحريدية" بشكل كامل في حياة الإسرائيليين، كما يقول، إلى جانب ازدياد التوتر بين الأشكناز والشرقيين والمتدينين والعلمانيين، واليمين واليسار، ناهيك عن ضعف القيادة الوطنية، وتلوث السياسة، واضمحلال "الرسمية"، وتآكُل الحلم الصهيوني والإسرائيلي دون استبداله بآخر.

في المحصلة، يوازن شفيط بين اليسار واليمين الإسرائيلي، ويحمّل كليهما نتيجة ما آلت إليه الأوضاع، لأنهما تصرفا بعدم مسؤولية، فاليسار قاد عملية سلمية فاشلة انتهت بكارثة، على حد قوله، كما أنه دفع بثورة دستورية محطّ خلاف، ولاحَق بنيامين نتنياهو، واليمين من جهته لم يقدم إجابة على كارثة الدولة الواحدة، وعزز الانقسام الداخلي، واستسلم لطقوس تعظيم شخصية نتنياهو.

ولكن ما حدث في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، هو برأي شفيط، بمثابة "انفجار سياسي" خلق وضعا جديدا، ودمّر مبدأ التوازن الصهيوني، وفجّر معادلة النجاح الإسرائيلية، وللمرة الأولى منذ تأسيس الحركة الصهيونية، كما يقول، صوّت 11% من الناخبين لصالح اليمين المتطرف، ولأول مرة منذ قيام الدولة يكون نصف منتخبي الائتلاف الحكومي من الحريديين أو القوميين، وللمرة الأولى منذ انقلاب 77، لا يكون الحزب الحاكم حزبا ليبراليا معتدلا.

شفيط يرى أن ما حدث من هزيمة للمعتدلين، وانتصار للمتطرفين، هو بمثابة هزة أرضية مفاهيمية اجتماعية وسياسية ضربت إسرائيل، وغيرت وجهها، وهي تهدد بتغيير هويتها، حيث سيطرت ثلاث مجموعات من المتزمتين على الكنيست وعلى الحكومة؛ المجموعة الأولى، هي "الحردليم "- الذين يطمحون إلى تطبيق حلم أرض إسرائيل الكاملة بشكل فوري وكامل، المجموعة الثانية هي "الحريديين"- الذين يطمحون بأن تكون للأوتونوميا "الحريديّة" حقوق أكثر، وواجبات أقل، والمجموعة الثالثة هي المتزمتة من اليمين الراديكالي، الذي يريد تحويل إسرائيل إلى دولة غير ليبرالية يستطيع أن يفغل بها ما يحلو له.

أما المشترك للمجموعات الثلاث، برأي شفيط، فهو تحويل إسرائيل من "دولة يهودية ديمقراطية" إلى "دولة يهودية"، بمعنى تقليص الهوية الديمقراطية للدولة، وإجهاض الهوية القومية المتنورة، وتحويل "الدولة الصهيونية" إلى "دولة شريعة قومجية"، وهو يشير في هذا السياق إلى أن "الهيكل الأول"، و"الهيكل الثاني" كانا قد خُرِّبا أيضا بسبب التزمّت، لأن "المتزمّتين" على قناعة بأنهم وحدهم من يسمعون كلام الله، وأنهم وحدهم من يمتلكون الحقيقة، وهم غير مستعدين للحوار، ولا المساومة، ومصممون على فرض وجهة نظرهم على الآخرين، وهم منغلقون على أنفسهم، ولا يرون ما يجري خارجها.

ما يعنيه التوجه القائم على القوة للمؤسسة "الحريدية" "الحردلية"، وما يحذر منه شفيط واضح، كما يقول، وهو إلغاء التعددية، واضطهاد اليهودية غير الأرثوذكسية، وإبعاد ملايين اليهود عن اليهودية، وخلق حالة من الاغتراب بين الجيل الشاب من اليهود، وبين الدولة اليهودية، وقطع يهود العالم عن يهود إسرائيل.

انفجار 2022 خلق، برأيه، وضعا إسرائيليا جديدا وغير مسبوق، وأطلق قوى تدميرية، ومنح أقليات متزمتة القدرة على إحداث ثورة معادية لليهودية وللصهيونية وللإسرائيلية وللديمقراطية وللمحافظة، وللرسمية أيضا، وهي تدير ظهرها للأغلبية الإسرائيلية وللمصلحة القومية الإسرائيلية، وبُغية لجم هذه القوى، يقترح شفيط إقامة تحالف صهيوني، بين "الصهيونية الليبرالية" و"الصهيونية القومية التقليدية" و"الصهيونية الدينية المعتدلة"، وتيسير هذا التحالف، ربما، يتطلب تحرير الدولة من عبئ محاكمة نتنياهو؛ "إما بصفقة ادعاء، أو بعفو رئاسي".

الكاتب الذي يعتبر بنظر الكثيرين "نبي غضب"، صدقت نبوءاته في الكثير من المحطات، يحذر من خطر وجودي داهم على "الدولة اليهودية " لم تصادف شبيها له منذ 75 عاما؛ خطر يتعزز بوجود التهديد الخارجي المتمثل بالخطر الإيراني، والخطر الفلسطيني المتوقع بانهيار السلطة، وتجدد المقاومة في الضفة الغربية، واحتمال انزلاقها إلى الجليل والمثلث والنقب.