الصراع في السودان حتى الآن ليس حربا أهلية، فالشعب والأحزاب غير مشاركين فيها، ولا أساس طائفي أو عرقي أو ايديولوجي لها، فكل من قائد الجيش البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) من نفس النظام والمؤسسة العسكرية كما أن قوات الدعم السريع والجيش الرسمي من المسلمين ومن نفس المذهب السني وجميعهم من العرب ، دون تجاهل الطابع القبلي والجهوي للمجتمع السوداني، وبالتالي فإن ما يبدو على السطح حتى الآن إنها حرب وصراع على السلطة وهو صراع ممتد منذ الاستقلال.
منذ عقود ونحن نسمع بأن السودان الذي تبلغ مساحته (1.882.000 كلم) مؤهل لأن يكون سلة غذاء لكل العالم العربي نظرا لخصوبة أراضيه، وما تختزنه الأرض من مواد خام كما أن له موقع استراتيجي في القرن الأفريقي وحدوده مفتوحة على سبع دول: مصر وإثيوبيا وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا وجنوب السودان، ومع ذلك استمر البلد فقيرا حتى بات لا يستطيع تحقيق أمنه الغذائي أو إنجاز الاستقرار السياسي حيث شهدت البلاد منذ استقلالها عام 1956 تعاقب عدة انقلابات عسكرية وحروب أهلية كان أخطرها في جنوب السودان الذي انفصل عن شماله في يوليو 2011 بعد سنوات من الحرب الأهلية.
كما جرت محاولات تمرد واحتجاجات في إقليم دارفور منذ عام 2003 وقد أدت لإزهاق أرواح أكثر من 300000 شخص وتشريد 2 مليون حسب إحصاءات رسمية للأمم المتحدة، وتم قمعها بشدة من طرف حكومة عمر البشير مستعينا بميليشيا (الجنجويد) التي تحولت فيما بعد إلى قوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو والذي يقوم بمحاولة الانقلاب اليوم على الجيش والدولة التي يتزعمها البرهان.
إن كنا نأمل أن يبقى الصراع محصورا في المؤسسة العسكرية وأن يتم وقفه بسرعة إلا أن هناك خشية من تداعيات قد تؤدي لتقسيم السودان وفتح المجال لتدخل أطراف خارجية وقد تكون تداعياتها على السودان ودول المنطقة أكثر خطورة من تداعيات فوضى الربيع العربي لعدة أسباب:
1- إن لم يكن هناك صراع طائفي وعرقي إلا أن المجتمع السوداني مجتمع قبلي والقبلية لا تقل عن الطائفية والعرقية في قدرتها على الحشد والاستقطاب، كما أن السودان يتشكل من 18 ولاية لكل منها خصوصيتها وبعض هذه الولايات تتشكل من مجموعات مختلطة عربية وغير عربية،
2- ما يجري في السودان جاء متزامنا مع تمدد نفوذ روسيا والصين في السودان وعموم افريقيا وحديث عن دور لجماعة فاغنر الروسية في تدريب ودعم قوات الدعم السريع..
3- ما يجري جاء متزامنا مع صراع بين حلف الأطلسي وخصوصا واشنطن مع كل من الصين وروسيا للهيمنة والتحكم بخيرات أفريقيا الهائلة، أيضا مع حرب أوكرانيا واحتمالات تحولها لحرب عالمية.
4- في حالة ضعف الدولة السودانية قد تنقل جماعات متطرفة نشاطها الإرهابي إلى السودان وخصوصا من دول الجوار كليبيا وتشاد ومالي حيث تنشط هذه الجماعات.
5- للسودان أهمية استراتيجية لمصر بسبب تحكمها في كمية المياه التي تصل مصر من نهر النيل أيضا لأنها من الدول المطلة والمتحكمة في البحر الأحمر، وأي نظام سياسي في السودان معاد لمصر سيؤثر على الأمن الاستراتيجي لمصر وخصوصا أن حدود مصر الأخرى مع ليبيا وإسرائيل غير آمنة تماما.
6- ما كان لقائد قوات الدعم السريع أن يُقدم على محاولة الاستيلاء على السلطة ومواجهة الجيش الرسمي الذي يفوقه عددا وعدة لو لم يكن مدعوما من جهات أجنبية أو موعودا بدعمها.
7- لإسرائيل علاقة حسنة بطرفي الصراع وقد عبرت عن استعدادها للوساطة فإن نجحت فستعزز نفوذها مع الطرفين وإن فشلت الوساطة قد تساند طرفا على طرف آخر وخصوصا أنها تتطلع منذ سنوات لأن يكون لها موقع قدم في البحر الأحمر.
8- بيان الخارجية الأمريكية بأن واشنطن قلقة على مستقبل وحدة الأمة السودانية أيضا تحذير حلف الأطلسي بأنه لن يسمح باستمرار الحرب في السودان يشي باحتمال تدخل غربي مباشر.
9- حتى في حالة حسم المواجهات في العاصمة الخرطوم لصالح طرف على حساب الطرف الثاني فإن هذا لا يعني نهاية الحرب حيث سيلجأ الطرف الخاسر إلى حاضنته القبلية وفي هذه الحالة سنغرق السودان في حرب أهلية.
10- نظرا لوجود تاريخ طويل من الحروب الأهلية وبعضها في إطار الانفصال فإن احتمال بروز نزعات انفصالية أمر وارد وسيكون إقليم دارفور البادئ في الأمر.
قد يقول قائل لا داع لتوظيف نظرية المؤامرة وتضخيم ما يجري في السودان لأن ما يجري مختلف عما جرى في دول (الربيع العربي) حيث الصراع في السودان محصور بين مكونات المؤسسة العسكرية وبالتالي لا علاقة بين الحدثين ولا خوف من تداعيات الصراع في السودان سواء على وحدة الدولة والمجتمع أو على دول الجوار.
لا نقول بأن هناك تطابقا بين الحالتين ولكن علينا التذكير بأنه قبل فوضى الربيع العربي كانت عديد التقارير والدراسات الاستراتيجية المسربة من واشنطن وحلف الأطلسي تتحدث عن مخطط (بلقنة) أو تجزئة دول العالم العربي وكانت هذه التقارير تتحدث عن تجزئة مصر والسودان والمغرب والجزائر ولبنان والعراق إلى دويلات وقد أشار المشروع الأمريكي لـ (الشرق الأوسط الجديد2004) ثم ( الشرق الأوسط الكبير 2006) إلى ذلك وقد نجح الغرب وخصوصا واشنطن مستعينة بأطراف داخلية في تحقيق بعض الإنجازات في هذا المجال كما جرى في العراق واليمن وليبيا وسوريا وفي مناطق السلطة الفلسطينية، وحتى في السودان حيث انفصل جنوب السودان عن جنوبه في العام الأول 2011 من فوضى الربيع العربي.
عندما اندلعت فوضى ما يسمى (الربيع العربي) عام 2011 كان الوجه البارز للصراع وأطرافه المباشرين هم الشعب في مواجهة السلطة، ولم يكن في المشهد السياسي في الأيام الأولى للأحداث أي حضور مباشر لأطراف خارجية أو لجماعات مسلحة محلية أو وافدة من الخارج وكان شعار المتظاهرين (الشعب يريد اسقاط النظام)، ولكن ما أن مرت أيام حتى ركبت موجة الاحتجاجات جماعات مسلحة كالقاعدة وتنظيم الدولة وجماعة الإخوان المسلمين وأخذت الدول الخارجية تتدخل، خفية أحيانا من خلال تمويل جماعات المعارضة أو بشكل عسكري مباشر كما جرى في ليبيا وسوريا واليمن، كما برزت الطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية، وبدلا من إسقاط النظام سقطت الدولة.
حمى الله السودان وشعب السودان من الفتنة والحرب الأهلية.