حرب أشِقّاء الأمس، وأعداء اليوم، في السودان، أبداً لا يمكن أن تكون عبثية، ومن يقول ذلك، وهو يعلم الحقيقة، فإنّه يحاول التغطية على أهدافها، والذين يقفون خلفها.
في الأصل، فإنّ سلّة غذاء الوطن العربي، هي دولة فقيرة رغم غِنَاها، وتقترب من أن تكون دولة فاشلة، بسبب تتابع الأنظمة العسكرية، في إدارتها، وانتشار الفساد على نحوٍ واسع في بلدٍ يغصّ بالتنوّعات العرقية والإثنية والطّائفية.
اعتماد الفكر الإسلامي، من قِبَل بعض أنظمة الحكم السابقة، وربّما، أيضاً، النظام الرّاهن، ليس سوى تغطية أخلاقية، لا يمكن إلّا أن تؤدّي إلى مزيدٍ من الإفقار، وتعريض البلاد لمزيدٍ من الانقسامات الجغرافية، بعد أن وقع الانقسام الكبير بين جنوب السودان وشماله.
كان العرب الغارقون في أنانيتهم، وارتهانهم للدول الاستعمارية، هم آخر من ينتبه لما يجري في السودان، وآخر من يتدخّل لمنع الانهيار، ولكن بعضهم وضع يده في يد إسرائيل من أجل تحقيق أوهام العَظَمة، والنُّفوذ الإقليمي.
عشرة أيّامٍ كانت كافية لكشف حقيقة النظام السياسي الذي يتسيّد عليه العسكر، حيث يُعاني السكان من محدودية الإمكانيات الطبّية، ونقص الكهرباء والماء، والمواد الغذائية الأساسية، ويهدّد استمرار الصراع شبكة الاتصالات، والمواصلات الضعيفة أصلاً.
أكثر من سبعين في المئة من المستشفيات في العاصمة الخرطوم ومحيطها خرجت أو أنها أُخرِجَت من الخدمة، وما تبقّى منها لا يستطيع القيام بواجباته لإنقاذ المصابين.
مئات القتلى ومئات الجرحى، كان بالإمكان إنقاذ عدد ليس قليلاً منهم، لو أن الإمكانيات الطبّية متوفّرة، وذلك باعتراف مسؤول أُمَمِي.
الفريقان يتبادلان الاتهامات إزاء المسؤولين عن اندلاع الأحداث، فهذا يتّهم ذاك بالانقلاب على العملية السياسية، وخيانة أهداف «الثورة»، والعودة بالأوضاع إلى سابق عهدها قبل «الثورة».
من يُوجّه هذه الاتهامات، يُحمّل مسؤولية تهريب آلاف السجناء ومن بينهم رموز نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وبما في ذلك «البشير» من السجون، عبد الفتاح البرهان وفريقه يوصف، أيضاً، بـ «الإسلامي الإرهابي».. البرهان وفريقه يتهّمون الآخر محمد حمدان «حميدتي» وفريقه بخدمة أجندة خارجية، وبالتمرُّد على النظام، وأيضاً يُحمّلونه المسؤولية عن هُروب رموز النظام المخلوع.
باستثناء ما يعلنه «حميدتي»، من أنّه يُحاول استعادة الديمقراطية والعملية السياسية، فإنّ أيّاً من الطرفين لا يُصرّح بأهدافه الحقيقية، ولا بمن يُشجّعه ويقف خلفه ويدعمه، الأمر الذي يُوفّر للبعض الذريعة لوصف هذه الحرب بالعبثية.
التصريحات التي تصدر عن دوائر رسمية دولية وإقليمية، وتبدو أنها تنطلق من مبدأ الحرص على السودان وأهله، وبعضها يظهر وكأنّه حريصٌ على حقن الدماء، واستعادة الحيويّة، للعملية السياسيّة، هؤلاء لا يفعلون شيئاً، بينما هم يعرفون أكثر من غيرهم الأهداف الخبيثة التي تقف وراء اندلاع الحرب، ويتواطؤون إزاء الكشف عن الطرف الثالث الذي يُغذّيها.
التصريحات المُعبّرة عن القلق، والمشفوعة بدعوات لوقف الحرب لا تغفر لهؤلاء انخراطهم في المسؤولية المباشرة وغير المباشرة عن الصراع ومآلاته.
حُمَّى ترحيل الدبلوماسيين، والرعايا التي تشكّل السلوك العملي الوحيد والأساسي، تشير إلى حقيقة واضحة، بأن هذه الحرب سيطول أمدها، وأنّ من يفعلون ذلك، لا يتّسم فعلهم بأيّ قدرٍ من المسؤولية عن حماية المدنيين السودانيين.
السودانيون المدنيون يُترَكون لأقدارهم، فهم إمّا جوعى، وإمّا عطشى، وإمّا لا نجاة لهم من الموت أو الإصابة، وإمّا عليهم مغادرة البلاد، إلى أقاليم مجاورة راحت تُسهّل خروجهم، من دون أن تتحمّل أيّة مسؤوليات مادية عن كيفية تدبير أُمورهم في ظلّ الفقر، وقلّة الحيلة.
على أنّ من يتبصّر واقع الحال، وما يقف من أهداف خلف هذا الصراع الدّامي، سيعثر بالتأكيد على الأهداف الحقيقية وراء اندلاع الحرب، ومن يقف خلفها، وما يقف خلفها من مصالح لا تخدم الشعب السوداني.
كلا الرأسين «البرهان» و»حميدتي» سلّما قيادَهُما لإسرائيل، فالأول هو من توسّل البدء بإقامة علاقات، وقام بلقاءات وزيارات لمسؤولين إسرائيليين، على طريق إبرام «سلام أبراهام»، والثاني «حميدتي» التصق أكثر وانخرط في مخطّطٍ مُعادٍ للسودان، ويستهدف إحالة البلاد إلى قاعدة إسرائيلية بعد أن نجح في جنوب السودان، وأثيوبيا، وأرتيريا.
يعزّ على «البرهان» أن يُسلّم السلطة لحكومةٍ مدنية، ولذلك فإنّه على الأرجح، مُنخرِطٌ في محاولة إعادة رموز نظام «البشير» إلى الحكم، أمّا «حميدتي»، فإنّه تحت شعار «الديمقراطية، ومحاربة  التطرُّف الإسلامي»،  يسعى للاستحواذ على السلطة.
«حميدتي» في تصريحٍ نادر قال إنه يُحارب «الإرهاب الإسلامي» كما تحارب إسرائيل حركة «حماس» و»الإرهاب الفلسطيني»، وهذا دليل كافٍ على ارتباطاته مع إسرائيل، وتقدّمه بخطوةٍ كبيرة عن «البرهان» في الركض نحو إسرائيل، ومن يقف إلى جانبها من بعض الدول الإقليمية.
مُخجِل جدّاً، أن يذهب بلد «اللاءات الثلاث» المشهورة، ضد إسرائيل إلى أن يُصبحَ دُميةً في يد العدو التاريخي للأمّة العربية.
«الخارجية» الإسرائيلية، وجّهت الدعوة لقطبي الصراع، «البرهان» و»حميدتي» لإجراء حوارٍ في إسرائيل، وكان ينقص تعديل اللغة، بحيث تتّخذ طابع استدعاء الطرفين من أحبابها.
في الحديث عن المصالح والخاسر والرّابح، فإنّ العربية السعودية ومصر، وخصوصاً مصر هي أكثر الخاسرين ممّا يجري، وممّا ينتظر السودان، الذي لن يبقى على حاله، فأقلّ ما يمكن أن يقع هو انفصال إقليم دارفور الذي اشتغلت عليه إسرائيل ودول أخرى معادية للسودان، هذا إذا لم تكن النتيجة، كلّ السودان، من غير الممكن إزاء ذلك أن يظلّ الموقف العربي، والتدخُّل والتأثير عند حدود القائم، والاكتفاء بالتعبير عن القلق والأسف، إلى أن يتفاجؤوا في قادم السنين، بمخاطر إستراتيجية على حقوقهم، وأمنهم القُطري والقومي.