رغم ازمة الهيمنة الأمريكية المتراجعة التي ترسخها الآن سياساتها بتهديد الدول التي قد تفتح على أبواب مزيدا من التصعيد بالعلاقات الدولية وتزيد من حالة عدم الأستقرار والأمن الدوليين ، فهنالك من يريد الحفاظ على مفاهيم الأستعمار واعاقة التحولات الدولية وحركة التاريخ نحو نظام دولي متعدد الأقطاب تتحقق به حريات الشعوب.
لهذا لم تكن مفاجئة قبل أيام تصريحات أورسلا فان دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية ولا بيان الكونغرس الأمريكي في "الذكرى ٧٥ لأستقلال إسرائيل" ، رغم انه ربما قد فاجئ البعض . بيان وتصريحات اتسمت باستمرار وجود عقلية الأستعمار رغم انتهاء حقبتها التاريخية منذ زمن ، وبالتنكر لحقائق التاريخ وحركته المستمرة بل وللجغرافيا السياسية . بيان تجاهل حتى ذكر شعبنا الفلسطيني او الأشارة لمبدأ حل الدولتين الذي يعدم الان على ارض واقع جرائم الضم والاستيطان . بيان تم اعتماده بأصوات ٤٠١ من ممثلي الحزبين مقابل ٢٨ بين امتناع ومعارضة من اعضاء تقدميين بالحزب الديمقراطي فقط ، وذلك في الذكرى ٧٥ لأدعاء "أستقلال" دولة أسرائيل الأستعمارية . لقد عبروا بذلك عن حقيقة مواقفهم السياسية التاريخية ومصالحهم وما يؤمنون به من فكر ، دون اكتراث بأن ادعاء الأستقلال هذا قد مثل نكبة شعبنا الفلسطيني ، تلك الجريمة المكتملة الأركان من التطهير العرقي والأستيطان ، والتي لم يحاسب العالم مُرتكبيها حتى اليوم . مواقف تخدم فقط استدامة الأحتلال الأستيطاني على أرض الواقع ، واستمرار سياسات إدارة الأزمة دون حلول سياسية لجذر الصراع المتمثل بالأحتلال الاستيطاني والأبارتهايد .
وهو ما يعبر عنه الغرب الرسمي بكل وضوح انطلاقا من محددات ما يسمونها بالقيم المشتركة مع دولة الأحتلال الإسرائيلي ولأهمية مكانتها الجيوسياسية لأطماعهم ، كما وسندا لأستمرار عقدة الذنب من "الهولوكست" التي تلازم الأوروبين وهاجس الخوف من الحركة الصهيونية او لأنخراطهم فيها لأسباب مختلفة .
كما أن ما يدور هذه الأيام من محاولات اقناع الأمين العام للأمم المتحدة باعتماد التعريفات العملية التي قدمها بالسنوات الأخيرة وتحديدا عام ٢٠١٦ التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) والمؤلف من ٣١ دولة على رأسها الولايات المتحدة بحيث تم ربط انتقاد إسرائيل وفق هذه التعريفات بمعاداة السامية ، وذلك لاحقا لإنشاء هذا التحالف عام ١٩٩٨ ، حيث تشير تلك التعريفات العملية بوضوح الى ان أي استهداف لإسرائيل أو "الادعاء بأن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري يمكن أن يكون بحد ذاته عنصريا ومعادٍ للسامية" وأن "تطبيق معايير مزدوجة من خلال مطالبة إسرائيل بمسؤولية سلوك غير متوقع من أي دولة ديمقراطية أخرى "هو أيضا معادٍ للسامية ، كما أن إلتشكيك بصحة روايتهم حول جرائم الهولوكست أو عدم الموافقة على كونها احتكاراً لما تعرض له بعض اليهود خلالها على يد النازيين ، هو توجه معاد للسامية ."
ان ذلك وفي حال اعتماده من جانب الامين العام غوتيريس رغم الاحتجاجات المتعددة من منظمات إنسانية وحقوقية دولية ومطالباتها بعدم اعتمادها ، سيؤدي بالنتيجة في حال موافقة الأمم المتحدة في تأييد التعريفات العملية للتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست إلى تشجيع عدد من الحكومات والدول على تقييد الانتقاد المشروع لسياسات حكومة الأحتلال الإسرائيلية ، ويخنق الدعوات المتزايدة لإنهاء نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الذي تفرضه إسرائيل على شعبنا الفلسطيني ، كذلك دعوات المقاطعة . الأمر الذي سيؤدي إلى ارتكاب مزيدا من الجرائم وهو ما يتم التحضير له من خلال خطة الحسم المُبكر التي تدعو لها حكومة الأحتلال الفاشية ، والى تكريس مغالطات تتعلق بامكانية الجمع بين مفاهيم الديمقراطية ويهودية الدولة والديمقراطية واضطهاد شعبا آخر من جهة ، ومن جهة اخرى إلى تعزيز مفاهيم الغرب الرسمي بمساواة الضحية بالجلاد والإجراءات الأحادية الجانب .
أن ادعاءات الصهيونية التي لا يقتصر الانتماء لفكرها على اليهود، بمعاداة السامية لا تقوم فقط على اظهار اليهود كضحية للتاريخ ، لكن أيضا من اجل ضمان الأولوية الاستعمارية "لحقوق اليهود المضطهدين" في وطن على حساب حقنا في تقرير المصير نحن الشغب الفلسطيني .
وقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد وضعت الصهيونية في درجة مساواة العنصرية عام ١٩٧٥ ، بغض النظر عن ما جرى لاحقا لإلغاء هذا القرار الأممي الهام عام ١٩٩١ نتيجة المتغيرات السياسية بالنظام الدولي انذاك وتفرد أمريكيا في نظام عالمي احادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، الذي نأمل بتغيره من جديد وفق مسار حركة التاريخ المستمرة .
ان تعريفات التحالف الدولي هذا التي تتفق مع الرؤية الصهيونية اتت في تناقض تام مع القيم الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي ، وهي تنتهك جميع الحريات المدنية وكذلك مبادئ نشؤ الاتحاد الأوروبي نفسه . حيث أصبح هذا أكثر وضوحا قبل سنوات قليلة ، عندما أقر البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) قانونا يُعرف إسرائيل على أنها دولة "الشعب اليهود المنتشر في كل العالم " ، بمقابل حرمان شعبنا الفلسطيني من حقه في تقرير المصير .
لم نشهد قط في التاريخ السياسي الحديث مثل هذه المحاولات لتزوير وقائع وحقائق التاريخ وتشويه معنى الكلمات التي يشارك الغرب الرسمي في تعزيزها لخدمة نوايا قوة محتلة وأستعمارية .
حيث ان اعتماد التعريفات العملية لمفهوم التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) ومعاداة السامية يمنح الإسرائيليين حصانة قانونية مطلقة لمواصلة انتهاكاتهم بحقنا وللقانون الدولي والإنساني ، حيث تجاهل هذا التعريف تماما جميع قرارات الأمم المتحدة وميثاق الأمم المتحدة ، كذلك مبادئ حرية التعبير عن الرأي ، وهو ما عَمل العنصريين ترامب وكوشنير سابقا على الدفع باتجاه صياغته وتقديمه للتحالف الدولي المذكور خلال وجودهم بالإدارة الأمريكية ، كما وتم لاحقا وفي عهد بايدن الذي يفتخر بصهيونيته اعتماده من جانب الادارة الامريكية في شهر تشرين الثاني من العام الماضي ٢٠٢٢ من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في بيان رسمي . هذه الإدارة وسابقاتها التي لم تقدم شيئا فعليا بشأن تنفيذ حل الدولتين او منع الاستيطان ، ولن تفعل سوى المحافظة على استدامة الأمر الواقع واستمرار حماية دولة الأحتلال حتى بالمحافل الدولية بغض النظر عن خلافات هامشية مع ايٍ من الحكومات الإسرائيلية كما هو حاصل اليوم لمحددات العلاقات الاستراتيجية بينهما والعقائدية . الأمر الذي سيجعل من دولة الفصل العنصري الواحدة أمراً واقعا من منظار بدائل الحلول الأخرى وأولها حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على كافة الأراضي المحتلة عام ٦٧ بما فيها القدس.
والمفارقة اليوم ان اليمين المتطرف الأوروبي ومن يسمون أنفسهم بالنازين الجدد يتخذون موقفا مؤيدا للحركة الصهيونية ويؤكدون الدعم المطلق لدولة الأحتلال الإسرائيلية لصد الاتهامات عنها بالعنصرية والأبارتهايد والفوقية الدينية رغم كل ما يجري من انقسام وخلافات بين مكونات المجتمع اليهودي الاستيطاني اليوم وثبات وضوح دولة الاحتلال كنظام فصل عنصري وسقوط تسويق نفسها كدولة ديمقراطية . وهو ما قد يفسر ذلك التعاون القديم بين الصهاينة والنازيين الذي تَرسخ عام ١٩٣٣ من خلال اتفاقية "هاعافارا" بينهم ، لتسهيل هجرة اليهود الألمان والأوروبين الاستيطانية إلى أرض فلسطين ، وقد يكون الهولوكست الذي نشجبه بالطبع كجريمة نكراء ضد الانسانية وشعوب اوروبا كافة من غير اليهود جزء من تلك المؤامرة التي ساهمت في تحقيق ذلك من خلال استغلال الحركة الصهيونية للكراهية بين العرقين الاَري والسامي .وكراهية الألمان لليهود في إطار عنوان نظريتها حول معاداة السامية والتوجه المستمر لتزييف وقائع التاريخ وطمس الحقائق .
ورغم ان ما يدور الان بمجتماعاتهم اليهودية المتنوعة المنشاء بدولة الأحتلال الأستعماري ، وخروج اصوات منهم ولأول مرة عبر تاريخهم تقول بعدم شرعية حكومة اليمين الديني الفاشي وتسقط تابوهات او مسلمات كان محرم الحديث حولها في تاريخ حركتهم الصهيونية حول "قيم مقدسة" ، اصبحت الآن تدور بشكل حاد بينهم . الا ان ذلك الانقسام الحاد الحاصل عبر أشكال مختلفة من الاحتجاج والفوضى ، لا يعبر عن خلافات جوهرية من مواقف اليمين السياسي بل والمتطرف من قضية شعبنا الفلسطيني وحقوقه ومسألة الأحتلال والتي كانت قائمة عبر كافة حكوماتهم والتي اعُتبر عدد منها "يسار صهيوني" من حزب العمل وما قبله ، والتي شكلت محور الإجماع الصهيوني حتى الآن في معاداة حقوق شعبنا وبوسائل مختلفة ، لكنها خلافات قد يكون لها أثرا على أوضاعهم الداخلية فقط .
أن المطلوب من اصدقاؤنا حول العالم والذين يدافعون عن حقائق التاريخ وحقوق شعبنا وعن قيم ومبادئ إنسانية وديمقراطية أن يمنعوا إقرار ما جاء في وثيقة التعريفات العملية للتحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكست أن كان بالأمم المتحدة و بالبرلمانات الأوروبية كقرارات وقوانين ، كذلك فضح وادانة تصريحات رئيسة المفوضية من خلال البرلمان الأوروبي ومجلس أوروبا ، والتي جائت في وقت تعاني أوروبا نفسها من حالة عدم استقرار سياسي وتضخم اقتصادي غير مسبوق بفعل تبعيتها لسياسات الولايات المتحدة .
والأهم أن المطلوب منا اليوم كفلسطينين عدم دفن روؤسنا بالرمال بل ضرورة مواجهة تلك التصريحات والبيانات الأمريكية والأوروبية الغربية الرسمية التي تستند إلى الرواية الصهيونية وتشويه حقائق التاريخ ، فلم يعد في هذا الظرف من المتغيرات الدولية وتراجع الهيمنة الأمريكية والضعف الأوروبي الذاتي التغاضي عن هذا الانحياز والنفاق السياسي او اعتباره مقبولا أو مفيدا لمسار تحررنا الوطني أو لعلاقات التضامن التي تربط الشعوب الأوروبية بل وحتى مع جهات أمريكية ويهودية تقدمية مع قضايا شعبنا .
كما وضرورة الإستفادة من الاغلبية الأممية بالجمعية العامة من أجل إعادة الاعتبار لقرار مساواة الصهيونية بالعنصرية خاصة بعد افتتضاح السياسات الإسرائيلية والفكر الصهيوني القائم على الأحلال والعنصرية والفوقية ، والبناء على تراجع نفوذ الولايات المتحدة خاصة بالشرق الأوسط أمام ما يحدث من متغيرات أدت إلى فشل مشاريعها التي عملت على محاولات تحقيقها .