واقع الحال أننا نعيش حالة من الافتراق في تعريف المشروع الوطني بحده الأدنى المشترك، افتراق يرقى إلى حالة من الانقسام، ويترافق ذاتيا مع فوضى المعايير واختلاف المرجعيات وما انبثق عنهما من ارتجال، يكرر أخطاء الماضي وخسائره غير الاضطرارية، ومن استدعاء التدخلات الخارجية وتوظيفاتها، ومن التماهي مع شعبوية ومراكز تهييجها. ويترافق موضوعيا مع أجندات تستخدم القضية الفلسطينية لإعادة بناء الهيمنة الاستعمارية من جهة، ولتعزيز مصالح إقليمية وتحويل القضية إلى ورقة استخدامية.
تتعدد الهويات داخل المجتمعات كالهوية القومية، والدينية والمذهبية والعشائرية القبلية والعائلية والمناطقية الجهوية والهوية الوطنية الجامعة. الهوية الوطنية تندمج فيها الهويات الفرعية والتوجهات والانتماءات لتجسد عبر الاندماج مصالح مشتركة وقيما ثقافية واجتماعية كالانتماء الجمعي والتعايش، والاختيار الطوعي، والتعدد الثقافي والسياسي والديني التي في مجموعها تشكل الهوية الوطنية. وتتحقق الهوية الوطنية في فضاء ديمقراطي وشعور جمعي بالانتماء الوطني والاستقرار. فلا يمكن الحديث عن هوية جامعة ترقى إلى وحدة وطنية في ظل إقصاء وتفرد وقمع وترهيب وغياب الحريات العامة والخاصة، ولا يمكن تحقيقها بشكل قسري إرغامي.
لقد أنتج الانتماء التاريخي (للأرض – الوطن) هوية وطنية جامعة للكل الفلسطيني وبالمثل فإن الدفاع عن الأرض والصمود ومقاومة المحتلين عبر الثورات والانتفاضات والفعل الثقافي والفكر السياسي عززت الهوية والوحدة الوطنية ووضعت الشعب على سكة تقرير المصير بعد أن أفشل مشاريع طمس واحتواء وإذابة الهوية الوطنية.
للثقافة ناظم ومبادئ كالتنوع والتعدد الثقافي والحق في الاختلاف والنقد وإثارة الأسئلة واحترام الآخرين والانفتاح على الثقافات الأخرى واحترامها والتأثر البناء بها، والقبول بكافة أشكال التعبير الثقافي، ومن شأن الأخذ بها تعزيز الهوية الوطنية ووحدة المجتمع والشعب الوطنية. أما ثقافة التعصب والتطرف والجمود، ثقافة التكفير والتحريم والتخوين والانغلاق فإنها تساهم في تفكيك الهوية الجامعة إلى هويات فرعية كالهوية الدينية والعائلية والعشائرية والجهوية، وتساهم في انقسام المجتمع وعزله عن الثقافات والحضارات الإنسانية.
إزاء ذلك يمكن القول، عندما تتغير الثقافة يتغير المجتمع ويطال ذلك الهوية الوطنية الجامعة. وما يهمنا هو وجود وازدهار الثقافة التي تنمو بالفكر الديمقراطي التحرري الذي يربط التحرر من الاستعمار الاستيطاني والعنصرية بالتحرر الاجتماعي وبالحريات العامة والخاصة وبنمو مجتمع المعرفة الذي يتيح مهارات تفكير علمية مواكبة للعصر والحداثة.
في نهاية العهد العثماني ومرحلة الانتداب البريطاني سجل النضال التحرري الفلسطيني مستوى من بلورة هويته وتقرير مصيره، لكن التطهير العرقي وتدمير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية والسيطرة الصهيونية على الأرض والمساحة الأكبر من الوطن الفلسطيني أحدثت قطعا مع هذه العملية التي تعرضت لمحاولات إدماج الفلسطينيين وإذابتهم في المحيط. استمرت مرحلة النكبة وما بعدها حتى الإعلان عن منظمة التحرير الفلسطينية العام 1964، ومنذ ذلك التاريخ وفي مرحلة صعود الثورة والانتفاضة انتعشت الهوية الوطنية الجامعة التي استوعبت داخلها الهويات الفرعية ولعبت "م.ت.ف" دورا مهما في تبلور الهوية وبناء شخصية وطنية فلسطينية.
وبعد هزيمة الثورة في الخارج وبعد إبرام اتفاق أوسلو حدث التراجع الذي كان عنوانه إضعاف الهوية الجامعة والوحدة الوطنية لصالح الهويات الفرعية الدينية والعائلية والعشائرية والمناطقية الجهوية، اصبح علم الفصيل اهم من العلم الوطني، والهوية العائلية العشائرية اهم من هوية التحرر الوطني، واصبح الزي المدرسي الرسمي والاختلاط والغناء والرقص وبعض الفنون محرما.
كان الحفاظ على الهوية الجامعة وترسيخها يحتاج إلى مأسسة تُفعِّل تطوير المجتمع والتجمعات وتشركهم في عملية التحرر الداخلي والخارجي. معروف أن الدولة تشكل الوعاء المادي للجماعة القومية، وتجسد الهوية وتنقلها من الحالة المعنوية إلى الحالة المادية عبر توحيد فئات المجتمع من خلال منظومة من القوانين والنظم التربوية والاجتماعية والسياسية.  ومعروف أن منظمة التحرير لعبت إبان صعودها دورا في المأسسة وإبراز الهوية الوطنية. لكنها أخفقت في الانتقال من الطابع المعنوي والرمزي إلى المستوى التطبيقي في تجربة الحكم لأسباب كثيرة أهمها قبول القيادة السياسية بقيود أوسلو من طرف واحد، واعتمادها على الإدارات الأميركية التي احتكرت مع دولة الاحتلال العملية السياسية اللتين قوضتا  مقومات الانتقال إلى طور الدولة. وبسبب بقاء بنيتها البيروقراطية الأبوية على حالها وانعزالها عن الخرائط الديمغرافية والسياسية الجديدة، وبسبب رعايتها للتحولات الرجعية داخل المجتمع. واعتمادها نظما تربوية واجتماعية وسياسية محافظة واعتمادها منظومة قوانين متخلفة، برزت أزمة السلطة والمنظمة ومؤسساتها، وتخلف السلطة الموازية "حماس" وما انتجته من بنيات مشوهة، المترافقة مع أزمة التنظيمات السياسية، والاتحادات الشعبية والمهنية، والنقابات. كل ذلك ساهم في تفكك الهوية الوطنية الجامعة.
بدورها مؤسسات الثقافة كاتحاد الكتاب ووزارة الثقافة ساهمت في التفكك بفعل انغلاقها  على مفاهيم وثقافة محافظة وتبنيها سياسات تكرس تبعية الثقافة للسياسة ولا تملك أي هامش استقلالي، وبفعل تجاهلها للثقافة الناقدة المناهضة للقمع والاستبداد والديكتاتورية والمدافعة عن الشعوب وحقوقها في الحرية والديمقراطية والخبز. انغلاق مؤسسات الثقافة وتمسكها برؤية محافظة ساهم ويساهم في إضعاف وتفكيك الهوية الوطنية خلافا لدورها السابق الذي ساهم في بلورة هوية وطنية منفتحة.
الشيء نفسه ينطبق على وزارة التربية والتعليم التي تتبنى سياسات ومناهج تعليم تفرض قيودا على العقول وتحول التعليم إلى أداة سيطرة وتحكم بالأجيال أمل المستقبل، مناهج وسياسات تتبنى التمييز ضد نصف المجتمع والتمييز بين دين ودين وتناهض الحداثة من خلال تبنيها المدرسة الدينية المتزمتة، وكان من شأن ذلك إضعاف الهوية الوطنية الجامعة لمصلحة الهويات الفرعية.
الخلاصة  
• لا يمكن فصل الثقافة ودورها في استعادة الهوية الوطنية عن طرح وتشخيص قضايا التطرف والشعبوية وأزمة الفكر والتفكير والخطاب.
• الحاجة إلى بناء ثقافة تحرر وطني واجتماعي، غير متماهية مع الثقافة الرجعية والمحافظة التي تتجاهل التراث الوطني ورموزه ومكاسبه.
• إعادة تعريف الفلسطيني كما ورد في الميثاق الوطني المادة 5، والتوقف عند الحق في هويات مزدوجة تحترم حق الفلسطينيين بالانتماء إلى فلسطين ضمن هوية واحدة، وحقهم في العودة إلى وطنهم، دون المس بحقهم في المواطنة والإقامة خارج وطنهم.
• إعادة تعريف المشروع الوطني الواحد للشعب في مختلف أماكن تواجده. وتحديد الهدف المركزي والأهداف الفرعية الوثيقة به. وهنا يجدر القول، لا غنى عن وجود مركز فلسطيني شرعي يلتزم بمصالح كل مكونات الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، منتخب بشكل ديمقراطي، ومعترف به دوليا وعربيا... كما ورد في وثيقة إعلان الاستقلال وكما جسدته المنظمة.
• الحاجة الماسة إلى مؤسسات ثقافية وتربوية تتبنى فكر الحداثة والمفهوم الحداثي للهوية بدءا من اتحاد كتاب مستقل في الحقل الثقافي متجاوزا نظام الكوتا، ومجلس أعلى للثقافة حقيقي، ومجلس أعلى للتعليم ولجنة مناهج مستقلة من داخل وخارج فلسطين.
• العمل على تغيير واستبدال القوانين التي تميز ضد النساء وتضع المرأة في مكانة دونية بقوانين تعزز المساواة
• الانتقال من حالة الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج الذي يعتمد على تطوير الموارد من داخل المجتمع والتجمعات والتحرر من ذل الدعم الخارجي وأجنداته.