تستحقّ المعركة الأخيرة أن نتوقّف عند دلالاتها، على أن نُتابع الأدوار الإقليمية للدول الإقليمية المتبقّية، وهما: إيران ومصر، وعلى أن نُجمل هذه الأدوار في مقالة ختامية.
سأبدأ بالقول: إنه وبالرغم من الفرق الكاسح والفادح والواضح، أيضاً، في معادلة القوّة بين «الجهاد الإسلامي»، ومعها بعض الأجنحة العسكرية الأُخرى، والتي هي أقلّ قدرةً من قدرة «السرايا» من جهة، وسلاح الجوّ والمدفعية، وكلّ مقدّرات أذرع الأمن الإسرائيلية من جهةٍ أُخرى، إلّا أنّ هذا الفرق الهائل على كلّ المستويات والصُّعُد لم «يتمكّن»، ولم يكن قادراً على أن يتحوّل إلى فرقٍ جوهريّ في معادلة الصراع التي عكستها هذه المعركة، لا من حيث النتائج، ولا من حيث قواعد الاشتباك.
أقصد أنّ إسرائيل بكلّ جبروتها وتفوُّقها، وكلّ تقنياتها العسكرية والاستخبارية كانت عند درجةٍ معيّنة من سير هذه المعركة «تحتاج» إلى وقف إطلاق النار بنفس الدرجة، إن لم نقل أكثر من حاجة فصائل المقاومة، وذلك بالنظر إلى أن تمكّنها من اغتيال ستّة من قادة «السرايا»، وتدمير بعض المنازل الخاصّة ببعض الكوادر والقيادات كان «كافياً» للظهور بمظهر «المنتصر»، وباستعادة قوّة الردع الذي ما انفكّ يتآكل، وهي الصورة التي أرادها بنيامين نتنياهو أن تساعده بالحفاظ على حكومته التي كانت في حالةٍ مترنّحة، وعلى ترميم الوضع الجماهيري لـ «اليمين» بما في ذلك حزب الليكود، وعلى كل الاعتبارات التي تتعلّق بتدهور مكانته الخاصة والشخصية في استطلاعات الرأي، والأخطار التي يمكن أن يواجهها على صعيد محاكماته جرّاء هذا التدهور.
ستتبخّر كلّ هذه الأوهام، وسيكتشف المجتمع الإسرائيلي أنّ شيئاً من كلّ هذا لن يحدث، وسيعود اليمين إلى ذات الدائرة من ترنّح الحكومة، وتراجع شعبية «اليمين» كلّه، ومن تدهور مكانة نتنياهو الخاصة والشخصية في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، وسيكون «اليمين» أمام نفس الأسئلة، ونفس الصعوبات، ونفس التراجعات.
كذلك فإنّ «الجهاد» ومعه من معه، أو من كان معه في هذه المعركة كانوا بحاجة إلى وقف التدمير الممنهج للمنازل والإمعان في قتل المدنيين، وإلى مساعدة الناس في القطاع على تحمّل الأعباء، وبما لا يزيد على ما هو أكثر من طاقتهم، وبما يمكّنهم من الاستمرار في الصمود، والقدرة على مواصلة البقاء في دائرة تقاسم الأعباء، والالتفاف حول خيار التصدّي للعدوان.
وعند هذه النقطة تمّ الاتفاق على وقف إطلاق النار من دون أن تحقّق إسرائيل أيّ «نصر» حقيقي، ومن دون أن تُهزم المقاومة، بدليل أنّها ظلّت إلى الدقيقة الأخيرة، وما بعدها، أيضاً، تقاتل، وتطلق الصواريخ، ولم تتأثّر قدرتها أبداً، بل ويمكن القول إن قدرتها على إطلاق الصواريخ كانت تزداد وتتصاعد مع تصاعد سير العمليات، وهو الأمر الذي يقطع الشكّ باليقين بأنّ استشهاد قادة وكوادر «السرايا» لم يكن حاسماً في تراجع القدرة على استمرار المعركة.
لم يكن مطلوباً أن تنتصر قوى المقاومة التي شاركت في هذه الجولة، ولم يكن ممكناً أن تنتصر عسكرياً، وكلّ ما كان يجب هو أن تصمد وقد فعلت بكلّ اقتدار، أمّا إسرائيل فكان مطلوباً منها أن تحسم أو تنتصر، ولكنها لم تتمكّن، ولم تفعل.
لقد عدنا إلى ذات المربّع، وذات النقطة، ولهذا بالذات فإنّ على نتنياهو أن يعود أدراجه إلى ما كان عليه، وعند نفس النقطة بعد انقشاع الدخان عن نتائج هذه المعركة.
وفيما يتعلّق بمشاركة حركة حماس فلم يتغيّر أيّ شيءٍ جوهري في موقفها، فقد بقيت على سياسة عدم المشاركة في العمليات العسكرية، وعملياً نجحت إسرائيل في إبقاء «حماس» على حيادٍ مقبول عليها، وغضّت إسرائيل النظر عن بعض مظاهر الدعم «اللوجستي» السرّي الذي أرادت منه «حماس» أن تستر به «عورة» سياستها، والتي جوهرها هو النأي بالنفس عن المشاركة، في حين انخرطت كتائب شهداء الأقصى (فتح)، وكذلك الجبهتان الشعبية والديمقراطية ــ كلّ حسب إمكانياته ــ في هذه المعركة.
صحيح أنّ «الجهاد» نأت بنفسها عن الإشارة بصورة واضحة ومحدّدة إلى الخذلان الذي شعرت به جرّاء مواقف «حماس»، وصحيح أنّ «الجهاد» «استعانت» بالغرفة المشتركة لكي لا تضطرّ إلى الإفصاح عن خيبة الأمل، لكنّ الصحيح، أيضاً، أنّ أمين عام «الجهاد» قد ضمّن خطابه إشارةً بالغة الدلالة بالقول [تحمّلنا ما تحمّلنا من أجل أن يبقى الموقف قويّاً].
أمّا الحقيقة المرّة إلى حدود العلقم فهي أنّ مُراهنة إسرائيل على «حياد» «حماس» ليس سوى الوجه الآخر لمعادلة بقاء الانقسام وتكريسه، وهذا ما تعرفه وتُدركه «الجهاد الإسلامي»، وهذا ما تعيه بعمق باقي الفصائل التي شاركت في هذه المعركة بكلّ ما تملك من إمكانيات وطاقات، ولكنها لم تمتلك بعد «شجاعة» التمرّد عليه لأسبابٍ تراها وجيهةً من الزاوية الوطنية، ولكنها في الواقع لا تقتصر على هذه الزاوية فقط، لأنّ هناك الكثير من الاعتبارات «الخاصّة» بما فيها الانتهازية، أيضاً.
غابت «حماس» عن وهج المعركة، و»قبلت» أن تنفرد «الجهاد» بمفاوضات وقف إطلاق النار، لأنّ المشاركة بها كانت ستعني حتماً إلزامها بالقتال، إن لم يكن مباشرةً أثناء سير المعركة، فبعدها بكلّ تأكيد إذا فشلت المفاوضات.
لن تصمد طويلاً هذه المعادلة، ولن تتمكّن «حماس» من التلاعب واللعب في مناطق «التماس» التي تحاول بها الإبقاء على الرضا الإسرائيلي، والإبقاء على غرفة العمليات، والإبقاء على الهمّة الإعلامية في معارك يدفع فيها الشعب الفلسطيني كلّ هذه التضحيات الهائلة، والإبقاء على التهديد بدخول معركة تعرف أنها ستتوقف بعد أقلّ من بضع ساعات، وبعد مضيّ خمسة أيام كاملة على احتدامها.
وحقيقة الأمر هنا هي أنّ المحور الإيراني لن يكسر معادلة الإبقاء على درجةٍ معيّنة من «التحالف» مع «حماس» قبل أن تبدأ جماهير الشعب الفلسطيني بالانفضاض من حول «حماس»، ومغادرة منطقة المراوغة التي تتمترس فيها.
كما غابت السلطة الرسمية عن مشهد هذه المعركة، ولم تبادر إلى تصدُّر الموقف السياسي، وبدت الاتصالات الدبلوماسية التي تستطيع أن تكون فاعلة ومُؤثّرة فيها، اتصالات مُتأخّرة، وتقليديّة، ودون مستوى الأحداث، ودون حجم الأخطار، ودون ما لديها من إمكانيات كبيرة على هذا الصعيد، خصوصاً وأنّ دولة الاحتلال هي التي بادرت إلى هذا العدوان، وأنّ هذا العدوان الغادر والمُبيَّت يتزامن مع ذكرى النكبة، وهو في أحد أهمّ معانيه ودلالاته أحد أشكال استمرار هذه النكبة على شعبنا.
وإذا أردنا أن نقول الأمور بكلّ صراحة فإنّ «الجهاد الإسلامي» كانت تعرف بأن إسرائيل لن تتراجع مُطلقاً في قضية الشيخ خضر عدنان قبل استشهاده، وهي لن تتراجع بعد استشهاده، ولم تكن بحاجةٍ إلى «الردّ» الصاروخي على الرفض الإسرائيلي الذي أدّى إلى اغتيال الشيخ عمليّاً، وكان التصعيد في الضفة الغربية أجدى وأهمّ، خصوصاً وأنّ نتنياهو كان يتحيّن الفرصة، ويبحث عن أيّ ذريعة لشنّ العدوان على قطاع غزة.
ومهما كان صحيحاً أنّ دولة الاحتلال ليست بحاجةٍ إلى ذريعة، إلّا أنّ العودة إلى سياسة الاغتيالات بالطائرات العسكرية كانت تحتاج إلى مثل هذه «الذريعة».
في اللحظات الحاسمة والحسّاسة قلَّما تفيد الرؤوس الحامية، بل إن العقل البارد هو الأقدر على إدارة الأمور، والتحكُّم بخيوط اللعبة.