رغم أن ديفيد بن غوريون أعلن قيام «دولة إسرائيل» عشية إعلان بريطانيا العظمى رسمياً إنهاء انتدابها على فلسطين، والذي كان قد بدأ بعد انتصارها وحلفائها في الحرب العالمية الثانية، وذلك يوم الخامس عشر من أيار من العام 1948، إلا أن إسرائيل لا تحتفل بذكرى ذلك اليوم باعتباره «يوم استقلالها» في الخامس عشر من أيار من كل عام، بل تحتفل به وفق تقويمها العبري، في الخامس من أيار، وحتى إذا صادف أن وقع ذلك الخامس من أيار يوم جمعة أو سبت، تحتفل به يوم الخميس الذي يسبقه، ولهذا فإن احتفال إسرائيل بما تسميه يوم استقلالها لا يترافق مع ما يقوم به الشعب الفلسطيني من إحياء لذكرى النكبة، التي حلت به في نفس اليوم الذي أعلن فيه بن غوريون قيام دولة إسرائيل، منذ خمس وسبعين سنة بالتمام والكمال.
والحقيقة أن إسرائيل لا تختلف مع كل العالم في التقويم فقط، بل في الكثير من الأشياء، بما في ذلك مفهوم الاستقلال نفسه، فكل دول العالم، خاصة الدول التي كانت مستعمرة قبل وخلال وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت شعوبها وأراضيها بكاملها تحت نير الاستعمار، فيما لم تكن إسرائيل كذلك، بل هي لم تكن أصلاً دولة ولا وطناً بهذا المسمّى لا قبل الانتداب البريطاني، ولا خلاله، وقد بدأ الأمر بوعد استعماري كما يعلم الجميع، أهداه وزير خارجية استعماري اسمه آرثر جيمس بلفور، لليهود الأوروبيين، أي ليس ليهود فلسطين ولا ليهود الشرق الأوسط، الذين كانوا يشكلون مشكلة تاريخية لأوروبا، لسنا هنا بصدد استعراض تفاصيلها، ولا بصدد إثبات الدوافع الاستعمارية التي دفعت بلفور لمنح ذلك الوعد لقادة الصهيونية العالمية العام 1917.
أكثر من ذلك، لم يكن هناك شعب إسرائيلي في فلسطين لا خلال الولاية العثمانية التي امتدت أربعة قرون على فلسطين، ولا حين احتلها الاستعمار البريطاني، لذا اضطر الانتداب نفسه إلى فتح أبواب هجرة اليهود من كل أرجاء العالم إلى فلسطين، لإقامة تلك الدولة التي سميت إسرائيل، أي أن مقاومة إسرائيلية للاحتلال البريطاني لم تكن، بل إن شعباً إسرائيلياً لم يكن موجوداً حين بدأ الانتداب، وهكذا فإن مجرد محاولة الإسرائيليين اعتبار يوم الخامس عشر من أيار يوماً للاستقلال ما هي إلا محاولة مغلوطة، وما هي إلا محاولة لتزييف الواقعة التاريخية، وهم يمكنهم أن يحتفلوا بذكرى إعلان أو حتى إقامة دولة إسرائيل، لكنه ليس صحيحاً أن يقولوا إنها ذكرى استقلال.
الأمر الآخر الذي يعتبر غير معتاد في العالم، هو تلك المفارقة، التي يترافق فيها احتفال طرف مقابل إحياء الطرف الآخر بالذكرى الأليمة، أي أن الفرح الإسرائيلي يقابله حزن فلسطيني، فإذا كان الإسرائيليون يتذكرون إعلان قيام دولتهم، حيث لم تكن لهم دولة، فإن الفلسطينيين يستذكرون ما فعله الإسرائيليون بهم في تلك الفترة، من قتل وتشريد، وهذه المفارقة في حقيقة الأمر تجعل من السلام أمراً صعب المنال، أي ما لم يعترف الإسرائيليون بأنهم قد ارتكبوا بحق الشعب الفلسطيني الفظائع، وبأنهم قد تسببوا له بالألم البالغ والمستمر طوال كل تلك العقود.
وإسرائيل تختلف مع كل العالم على الحل، فالعالم ممثلاً بمنظمة الأمم المتحدة، قد رأى ومنذ العام 1947 وحتى اليوم، ضرورة وجود دولتين، الأولى قائمة منذ ذلك الوقت، والثانية ما زالت تنتظر قيامها، بسبب الرفض الإسرائيلي، وبسبب ليس فقط تجاوز إسرائيل لحدودها وفق قرار التقسيم، بل واحتلال كل أرض دولة فلسطين، إن كانت تلك المعروفة وفق قرار التقسيم، أو تلك التي احتلتها بعد إعلان قيامها، أي أن إسرائيل التي تدعي اليوم بحقها في القدس، والتي ترفض الاعتراف بأن ما احتلته العام 1967 هو أرض فلسطينية محتلة، أعلنت قيامها العام 1948 دون القدس ودون الضفة الغربية وغزة، ودون حتى أن يتضمن إعلان بن غوريون أن تلك الأراضي هي «أرض إسرائيلية» تحتلها الأردن ومصر.
بل ادعت إسرائيل طوال الوقت، أنها تضطر لخوض حروب الدفاع عن النفس، خاصة حرب 1967، وأن حروبها دفاعية رغم أنها في كل حرب تحتل أرض الغير، وليس العكس، وهي احتلت أراضي مصرية ولبنانية وسورية، ولم تخرج من أي منها بإرادتها، لهذا فإن إسرائيل لا تشبه دول العالم الأخرى، لا في طبيعتها ولا في علاقاتها مع الدول الأخرى، خاصة الجيران، القريبين منها والبعيدين، وهي إن لم تكن في حالة حرب مع الآخرين، في كل الشرق الأوسط، فهي في حالة حرب منذ إعلان قيامها وحتى اليوم مع بعض دوله، وهي أيضاً في الوقت الذي تكون فيه في إطار علاقة طبيعية مع دولة من دول الجوار أو مع دول الشرق الأوسط عموماً، فإن علاقتها تقتصر على نظام الحكم في تلك الدول، ولا تمتد إلى شعوبها، وإسرائيل حالياً هي أكثر دولة في العالم اتخذت بحقها قرارات إدانة دولية، وأكثر دولة في العالم تتظاهر ضدها الشعوب منددة بجرائمها وباحتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين.
أما اليوم فبعد خمسة وسبعين عاماً، تغير العالم، وإسرائيل التي أنشئت وفق حسابات الحروب العالمية، بما فيها آخر تلك الحروب، أي الحرب الباردة، ما زالت قائمة، لكن بالمقابل أيضاً ما زالت القضية الفلسطينية حاضرة، تضغط عليها، وتجعل منها دولة غير مستقرة، لا داخلياً ولا خارجياً، أي أن إعلان قيام دولة إسرائيل لم يكن ذلك الحل المثالي للمسألة اليهودية كما ادعى بلفور، ولو كان قيام دولة إسرائيل استقلالاً كما تدعي، لهدأ بها الحال، ولعاش شعبها في هدوء وسلام، لكن ما زالت إسرائيل تحاول أن تحقق المستحيل، فهي لم تكتفِ بدولة صغيرة تعيش بسلام، بل تفضل عليها دولة عظمى إقليمية، لهذا هي في حالة حروب متتابعة، بما يؤكد الهدف الاستعماري من إنشائها، وليس ذلك الهدف الإنساني كما يدعون دائماً، وهو إنشاء وطن قومي ليهود العالم بعد أن تعرضوا للاضطهاد والقهر في العديد من أماكن العالم.
والحقيقة أن بقاء إسرائيل على قيد الحياة، لا يعني أن إقامتها كانت أمراً شرعياً، لأنه بالمقابل لم يتوقف مسار النكبة في الجانب الفلسطيني، أي استمرار فعل التشرد والقتل اليومي، ومنعه من تحقيق طموحه وحقه في إقامة دولته المستقلة هو الآخر، ومن لا يعترف بحق الآخرين في المساواة بحق الحياة أولاً، لا يستحق ما لا يقره لغيره، أي أن إسرائيل تبقى دولة ناقصة الأهلية إلى أن تنهي احتلالها لأرض وشعب دولة فلسطين، وتعترف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، ليس ذلك وحسب، بل وحيث إن واقع النكبة يظل قائماً، فحتى بعد إنهاء الاحتلال، وإحلال السلام والتوقف عن ممارسة القتل اليومي للفلسطينيين، لا بد أن تعترف إسرائيل رسمياً بالنكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني العام 1948، والتي كانت هي السبب الرئيس فيها، بل وكان إعلان قيامها بالتحديد أحد أشكال تلك النكبة التي توازي الكارثة التي حلت بيهود العالم إبان الحرب العالمية الثانية.
واعتراف إسرائيل بالنكبة الفلسطينية، متضمناً اعتذارها الرسمي، لا بد أن يترافق مع تنفيذ حق عودة اللاجئين الذين طردتم من ديارهم، وبحق أحفادهم بإعادة بناء أكثر من 500 قرية دمرها التطهير العرقي الصهيوني على طريق إعلان قيام دولة إسرائيل!
ولأنه لا يمكن للشرق الأوسط أن يعرف الهدوء والاستقرار، بسبب الخلل الواقع منذ 75 عاماً، والمتمثل في قيام دولة دون الأخرى من طرفي الصراع الذي وقع داخل فلسطين منذ بدء الانتداب البريطاني، لذا لا يمكن النظر إلى إعلان بن غوريون في الخامس عشر من أيار 1948، إلا على أنه كان إطلاقاً لصراع ما زال قائماً وألا يتوقف إلا بإعلان قيام دولة فلسطين، حيث حينها يمكن لشعبَي الدولتين أن يحتفلا بالسلام وباستقلالهما معاً، ولعل إحياء الأمم المتحدة هذه السنة لذكرى النكبة الفلسطينية دليل على أن فلسطين تحقق النصر بالنقاط، فذلك أمر حتى بالمعنى السياسي يضيف إلى المطالبة بإنهاء الاحتلال وبحل الدولتين، المطالبة بحق اللاجئين في العودة والتعويض وهو حق منصوص عليه دولياً وصدر به القرار 194 وذلك يوم الحادي عشر من شهر كانون الأول من العام 1948، أي بعد قيام إسرائيل بنحو ستة شهور.