لا جديد تحت الشمس، ما عدا القائمة الجديدة من أسماء ووجوه الضحايا. وهذه لن تبقى جديدة أكثر من عام وبضعة أشهر، على الأرجح، طالما أن أقداراً إغريقية عاتية تتربص بغزة مع حرب جديدة، وأكيدة، في الانتظار.
 كل ما يمكن أن يُقال عن الحرب الأخيرة، في غزة وعليها، قيل عن الحرب التي سبقتها، ويصلح دون تعديلات، أو إضافات تُذكر، للكلام عن الحرب التي ستأتي بعدها. لذا، لا فائدة من مشقة التحليل والتعليل، وإعادة طحن الماء: من "العدو الباحث عن تصدير أزماته"، إلى بيانات غرفة العمليات و"وحدة الساحات"، ولماذا شارك هذا، وتخلّف ذاك.
شنّت إسرائيل 16 هجمة عسكرية واسعة النطاق، في غزة وعليها، منذ انسحابها في العام 2005 وحتى يوم الناس هذا. ما يعني أن "الهدوء" بين حربين لا يتجاوز سنة وبضعة أشهر مما تعدون، في رقعة جغرافية يقطنها ما يزيد على مليونين من بني الإنسان، بلا أرض زراعية، وموارد طبيعية، يعتد بها، أو حتى مياه صالحة للاستهلاك الآدمي، وتبدو وسيلة إيضاح مروّعة لتأقلم الناس، رغم أنوفهم، مع حالة فريدة، ومشوّهة تماماً، من حالات الاقتصاد السياسي للحرب (الدورة المالية للفصائل، وضرائب "ولي الأمر"، التهريب والسوق السوداء، والمساعدات الأممية، والصدقة القطرية عن طريق ناقل الحقائب الإسرائيلي، إضافة إلى تسديد فواتير الخدمات من جانب السلطة الفلسطينية، ومرتبات الوظيفة العمومية).
وما يستدعي التفكير والتدبير، هنا، أن هذه الحالة الفريدة، والمشوهة تماماً، من حالات الاقتصاد السياسي للحرب، لم تُرغم الناس على التأقلم معها وحسب، بل ونجحت في توليد لغتها، ومفرداتها، وحقلها الدلالي، أيضاً. لا يهتم الناس، عادة، بتفكيك علاقات كهذه، أو حتى التفكير في وجودها. لذا، لا مفر من التذكير بالعلاقة العضوية بين اللغة والمفردات والحقل الدلالي السائد في مجتمع ما، وخصوصية دورته الاقتصادية، ونظامه السياسي، أو "لا نظامه السياسي"، إذا شئت.
وبناء عليه، لا يُلاحظ منتجو خطابات الميلودراما الوطنية بنبرتها العاطفية العالية أنهم "يرشون على الموت سكّر"، ولا يفعلون أكثر من إعادة تدوير مُفردات وأخيلة الحقل الدلالي لخطاب "المقاومة" مع أخطاء املائية، ونحوية أقل. ولا يلاحظ محللو "العدو الساعي إلى تصدير أزماته" أنهم يعيدون تدوير وإنتاج الخطاب نفسه، بعد تمويه بلاغته، ونسبه الفصائليين.
 تُمثّل الحالتان ترجمة موضوعية للاقتصاد السياسي للحرب، وتخلق كلتاهما عالماً موازياً لا يحتمل أسئلة وتساؤلات عن أوجه الشبه المروّعة بين "الليلة" و"البارحة"، بين حرب سابقة وأُخرى لاحقة، عن ميزان الربح والخسارة، وعن المعنى والجدوى، وإذا شئت أسئلة من نوع: إلى متى؟ وماذا بعد؟ من هنا إلى أين؟ وما المعادل السياسي المادي، والموضوعي، لكل ما سددنا من فواتير حتى الآن؟
لا ينفصل الواقع الموازي عن الواقع الفعلي وحسب (ضحايا، بيوت دُمّرت في حروب سبقت ولم ترمم بعد، وعائلات هُجّرت منذ سنوات، بطالة، ضرائب، ومياه لا تصلح للاستهلاك الآدمي، وتقنين للكهرباء والخدمات) بل ويمثل محاولة لحجبه، أيضاً.
وهذا ما تتكفّل بتحقيقه ثنائيات وموضوعات قليلة، تحتل المتن، وتعمل على إفقار الحقل السياسي بتجريدات عالية ومتعالية فهناك: مقاومة ولا مقاومة، صمود وتخاذل، بطولة واستسلام، شهداء وعملاء. الخ. لذا، لا مكان في حقل سياسي، لا يعترف بالنقد والنقد الذاتي لسجالات جدية، وفي المقابل ثمة الكثير من الشتائم والعنف البلاغي، الذي ينصب على رؤوس المخالفين في الرأي. ومحصلة ها كله: طغيان الميلودراما الوطنية، بنبرتها العاطفية العالية، ونجاح الفضائيات، دائماً، في العثور على أشخاص يكررون الكلام عن "عدو لا يكف عن تصدير أزماته".
يتسم خطاب الثنائيات، هذا، بالهشاشة، ويمكن تبديد طمأنينته بالإشارة إلى تجريداته الوهمية، التي تخلق عالماً موازياً، وتسهر على حمايته. ومع ذلك، فإن نقدها لن يكون مفيداً إلا إذا رأينا فيها انعكاساً موضوعياً لما يسم حالة فريدة من الاقتصاد السياسي للحرب، في غزة، من تشوّهات بنيوية، فثمة مصادر مختلفة للشرعية، وموارد دخل مختلفة، وولاءات مختلفة، وتوازنات داخلية فرضتها علاقات وتوازنات خارجية.
ألم يكن من الممكن تحويل غزة، بعد انسحاب الإسرائيليين وتفكيك مستوطناتهم، إلى وسيلة إيضاح لبراعة الفلسطينيين في بناء نموذج يبرر إقناع العالم بقدرتهم على تحويل كل متر ينتزعونه من أنياب الاحتلال إلى جنّة صغيرة؟
شنّت إسرائيل 16 حرباً، أو عملية عسكرية واسعة النطاق في غزة وعليها، بما فيها الأخيرة، على مدار 18 عاماً مضت، وفي الأثناء فصلت قطاع غزة عن الضفة الغربية، وقوّضت مشروع الدولة الفلسطينية، وما المانع، نظرياً وعملياً، من استمرار الحال على ما هو عليه، لمدة 18 عاماً قادمة، في ظل نظام الأبارتهايد المفروض على الفلسطينيين، وتأقلم العالم معه، ومع عمليات "تشذيب العشب"، التي يشنها الإسرائيليون بمعدّل مرّة كل سنة وبضعة أشهر؟
وإذا أضفنا إلى سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه، حقيقة ما نجم عن الاقتصاد السياسي للحرب، المشوّه أصلاً، من تشويه وفقر وإفقار، أصاب العقل السياسي، وحتى فكرة السياسة نفسها، وما نجم عنه، أيضاً، من غنائيات الميلودراما الوطنية، وتحليلات "العدو الذي يُصدّر أزماته"، نكون قد صرنا بلا عين تُبصر، ولا مخيّلة سياسية تُحرّض على ممارسة النقد أو طرح الأسئلة، في أفق مسدود تعصف به، وبنا، أقدار إغريقية، وعاتية.