انتهى حدث القمّة العربية. عاد المشاركون إلى بلدانهم وفي حقائبهم نسخ من البيان الختامي والصور التذكارية، وتقلّصت مساحة الاهتمام بها في نشرة الأخبار. وما يستدعي الاهتمام، بقدر ما يتعلّق الأمر بمعالجة اليوم، أنها تُصاغ، ككل حدث آخر، كسردية narrative تصلح للتسويق والاستهلاك، وأن السرديات (منذ العصر الحجري، إذا شئت، وحتى يوم الناس هذا) خاصة السائدة، والتي يُراد لها أن تكون تسود، تُصاغ كتمثيل حصري للحقيقة، وأن في مجرد فعل كهذا ما يجعلها عرضة للنقض من جانب سرديات مغايرة تسعى لانتزاع الحق في تمثيل الحقيقة: حقيقة ما حدث، وكيف ولماذا حدث؟
وسواء أحببنا أم كرهنا، فثمة رواية سائدة تتبلور الآن، وتستعين بالمرئي والمسموع، وبما لا يحصى من تقنيات التحليل والإيحاء، لتكريس الكلام عن القمة بوصفها محاولة "لترتيب أوضاع البيت العربي"، و"لمّ الشمل". كلا الأمرين غير صحيح بطبيعة الحال، فلا وجود لشيء اسمه "البيت العربي". وإذا كان ثمة من شيء كهذا فالنار تشتعل في أركانه، وتأكل كل مكان فيه، إما كحروب أهلية باردة وساخنة بين أبناء البلد الواحد، أو في صورة صراعات في الظاهر والباطن بين بلدانه، وفي كل الأحوال يستفرد الحاكمون في البيت بمواطنيهم، بلا حسيب أو رقيب.
لذا، فلنفكّر في سرديات مغايرة لا تحتكر تمثيل الحقيقة، بالضرورة، بل لعلها أكثر قرباً منها، وأشد صلة بها. وقبل هذا كله، وبعده، فلننظر إلى كل منها كمرآة مستقلة في قاعة للمرايا، تتكسر فيها الوجوه، وتتداخل الأبعاد. أوّل ما يرد إلى الذهن، في هذا الشأن، أن مركز الثقل في العالم العربي قد انتقل على امتداد العشرية الثانية في ألفية وقرن جديدَين، وللمرّة الأولى في تاريخه، من المراكز الحضرية والحضارية إلى الأطراف. لذا، فلنضع كل ما يتجلى من وقائع وأحداث في خانة الترجمة السياسية لعملية الانتقال هذه.
لا يتسع المجال، هنا، لتفصيل آثار محتملة متوسطة، وبعيدة المدى، لعملية تاريخية كهذه، ولا نحتاج، الآن، إلى أكثر من الحفاظ في الذهن على فرضية الترجمة السياسية لانهيار الحواضر، وانتقال مركز الثقل، وما لأمر كهذا من جراح ونتائج أورويلية (مِن جورج أورويل) في الغالب.
ثاني ما يرد إلى الذهن من سرديات محتملة: ما ينجم عن الاعتراف بأن ما يُصوَّر كعملية ترتيب للبيت، ليس أكثر من محاولة لإعادة التموضع بعد خسائر واضحة للعيان في حروب العشرية الثانية، التي ألحقت الويل والثبور وعظائم الأمور في كل مكان ضَربت فيه.
لم يسقط الخصوم الأكثر شراسة وصلابة على الجانب الآخر لخطوط التماس السياسية والعسكرية والأيديولوجية (الطائفية). لا نظام آل الأسد، ولا جماعة الحوثي، وإيران التي كان يُفترض بالعقوبات الاقتصادية، والتهديدات الإسرائيلية، وإلغاء الاتفاق النووي، ناهيك عن عمليات التخريب الداخلية، أن تعمل مجتمعة على إسقاطها من الداخل، صارت تنتح الآن صواريخ بعيدة المدى، وطائرات مسيّرة انتحارية، تبيعها للروس وغيرهم.
لذا، فإن اللافت في موضوع "إعادة ترتيب البيت" هو تطبيع العلاقة مع الأكثر شراسة وصلابة، للانسحاب من ورطة على خطوط التماس دون مزيد من الخسائر. وأرجو ألا تُفهم أوصاف من نوع "الأكثر شراسة وصلابة" كنوع من الثناء، فالمسألة لا تعدو التشخيص الموضوعي للواقع. وقد ألحق هؤلاء الكوارث بشعوبهم، ولكن عداء الآخرين لهم لم ينجم عن تعلّق خاص بحقوق الإنسان من جانبهم، بل عن حسابات وتوازنات مادية وباردة، بلا شفقة، أو تأنيب ضمير.
وتبقى لدينا، الآن، ضرورة التوقف السريع عند نقطتين لا تحتملان إساءة الفهم، وكلتاهما نجمت عن المصدر نفسه. أعني امتعاض الإسرائيليين من "كيف وجدت إسرائيل نفسها على الهامش" بعدما شرع الشركاء الإقليميون (فوق الطاولة وتحتها) في تطبيع علاقاتهم مع إيران، وعززوا علاقتهم بالصينيين والروس بطريقة مبتكرة ومتوازنة مع الغرب والأميركيين، مكّنتهم من استضافة زيلينسكي نفسه.
والواقع أن "امتعاض" الإسرائيليين ناجم عن التناقض بين الظاهر والباطن، بين وضعهم وثقلهم الإستراتيجيين ومكانتهم الفعلية "تحت الطاولة" من ناحية، وما يبدو، للوهلة الأولى، كسياسات مستقلة من جانب البعض في الإقليم، من ناحية ثانية. لا ينبغي استبعاد "غيرة" نتنياهو من زيلينسكي، بل وحتى تفسير شماته خصومه من الإسرائيليين بهذا المعنى. ومع ذلك، لا دعوة زيلينسكي، ولا "السياسات المستقلة" تتعارض بشكل حاد مع الحسابات الإستراتيجية للإسرائيليين. والواقع أن في مجرّد الكلام عن احتمالات وسيناريوهات كهذه، وكونها لم تعد من قبيل الفنتازيا، ما يدل على حجم الكارثة التي أصابت الحواضر، خاصة المركزية منها، والدرك الذي هبطت فيه.
على أي حال، ومع الانتقال إلى النقطة الثانية، فلنقل، إن لمقعد زيلينسكي قيمة دعائية في المقام الأوّل: أما الغائب الحاضر، وما يمكن أن يتجلى كترجمة فعلية لتوازن القوى، وحسابات الربح والخسارة، بعد إعادة التموضع، فلم يكن ليكتمل دون دعوة الإيرانيين. وهذه ليست مسألة دعائية، فهؤلاء بين أيديهم مفاتيح أبواب كثيرة وموصدة في الإقليم. ربما لم يحن أوانها بعد، وقد لا تتحقق، لأنها باهظة الثمن فعلاً.
يمكن، استناداً إلى ما تقدّم من مرايا الواقع، وما ينجم عنها من تداعيات، رسم ملامح عامة لسرديات مُغايرة ومُنافسة، لا تملك فرصة جدية للانتقال من الهامش إلى المتن، حتى وإن كانت أكثر جدارة، وأصدق تمثيلاً من سردية يُراد لها احتلال المتن، والهيمنة عليه، واحتكار الحق في تمثيل ما يُراد له أن يكون الواقع أو الحقيقة.