في غزة يمكن لأي شخص أن يتذوق المعروضات من البضائع مهما كان ثمنها فوق الحوامل المخصصة لعرضها، وكثيرا ما يحدث ذلك بلا استئذان من البائعين، ويمكن للمتذوِّق أن يغادر المكان بلا شراء، لا يجرؤ أصحاب البضاعة على اللوم والاعتراض، والحجة أنَّ البضاعة التي تَستدرُّ الشهوةَ وتُشتهى من المساكين والفقراء المعدمين لا تحل فيها البركة، فلا تُباع!
في غزة أيضاً يُصر كثيرٌ من البائعين على مراعاة الوزن الدقيق للبضاعة، لأن هؤلاء البائعين يخشون غضب الله عليهم إذا أخلوا بالميزان امتثالا لقوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ». وفي الوقت نفسه يمكن للبائع نفسه أن يغش الشاري في السعر، ويُقسم بالله قسماً ليس صادقاً أن بضاعته مختلفة وذات جودة عالية!
في غزة وحدها يُوقِفُ شرطيُ المرور السيارات التي تُخالف قانون السير، يفحص أوراقها بدقة، ثم يصور رقمها بهاتفه الشخصي بطريقة حضارية إلكترونية، ويسمح للسائق بمواصلة السير، ثم يُغذي الكمبيوتر فوراً بالمخالفة عند تجديد الترخيص، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يُوقف عربات الأحصنة والحمير ولا حتى الدراجات النارية السريعة جداً التي تسير عكس اتجاه السير بتهور وتحدٍ صارخ، أو تقتحم ممرات المشاة النادرة، والحجة أنها غير مبرمجة في نظام المرور في غزة!
في شارع ضيق في غزة يفاجئك عددٌ من البائعين برش رذاذ العطر من قوارير يحملونها في أيديهم على ملابس السائرين لجذب الزبائن، وما أكثر البائعين الذين يُشعلون النار في مكعبات وأعواد البخور في الشارع العام كدعاية للرائحة الجميلة!
وفي الوقت نفسه يُلقي بائعون آخرون بجوارهم مخلفاتِ محلاتهم في الشارع العام، لأن الشارع العام مِلكٌ للجميع، ولا يحق لأحدٍ أن يعترض!
هل جربت في غزة أن تشتري بطارية لهاتفك المحمول من الطراز القديم؟ جرب وسوف يفاجئك البائع عندما تسأله، ما الدليل على أنها مشحونة، يبتسم البائع في وجهك، ثم يلحس بلسانه طرفي البطارية السالب والموجب، وهو يقول: إنها تلسع اللسان، إذن فهي مشحونة!
كثيرون في غزة ما يزالون يفحصون أنبوبة الغاز الممتلئة باستعمال شعلة الولاعة!
في غزة وحدها يستطيع صاحب الدكان أو المحل التجاري أن ينزع بلاط المشاة المخصص للمشي على الرصيف المقابل لمحله ثم يُغيره ببلاط على ذوقه الخاص، حتى لو أدى ذلك إلى زحلقة المشاة، ووقوعهم!
في غزة فقط يمكن لأصحاب المحلات أن يغتصبوا الرصيف المخصص للمشاة بالكامل وذلك بوضع محرك كهربي خاص لهم، أو ينصبوا في وسط الرصيف خيمة دائمة للمعروضات، أو يحتكروا الرصيف مطعماً ومكاناً للشواء، ويُثبِّتون أركانَ مطعمهم في رصيف المشاة بأسياخٍ حديدية مدببة تعترض طريق السائرين، وبعضهم لا يكتفي بذلك، بل يغتصب جزءا آخر من الإسفلت المخصص للسيارات!
في غزة أيضا وظيفة مؤقتة لا توجد إلا فيها، وظيفة يتمناها كثيرون، تتراوح مدتُها بين شهر واحد وستة شهور، هذه الوظيفة ممولة من مؤسسات دولية في الخارج، مخصصة لتنظيف شوارع غزة من الرمال والغبار، يقوم العمال بإزالة الرمال من الأسفلت، ثم يكومونه على طرف الإسفلت القريب، وما إن تهب الرياح في اليوم التالي، حتى تعود الرمالُ إلى أماكنها من جديد، ثم تأتي فرصة عملٍ أخرى جديدة لعاملين آخرين ليقوموا بالدور نفسه! يبدو أن المانحين الكرام استحدثوا هذه الفرصة لكي يُطبقوا علينا الحكمة العبثية القائلة: «عمالُ فلسطين يطاردون الغبار ويزرعون البحر مِلحا»! هذه الوظيفة اسمها غريب (عامل بطالة)!
في غزة فقط، ينشر مؤلفو الكتب إصداراتهم على حسابهم الخاص، أو يُغامر بعضُ الناشرين بطباعة بعض الكتب، وقد يُكافئ الناشرون مؤلفي الكتب مكافأة رمزية يمنحونهم بعض الأعداد من كتبهم مجاناً كرماً ومِنّة، أما زملاء هؤلاء الكتاب ومعارفهم ومقربوهم فإنهم يطاردونهم ليحصلوا منهم على إهداءٍ مجانيٍ بتوقيعهم ليحظى الكتّابُ المساكين بالشكر والامتنان، وإن لم يفعلوا فهم مذمومون!