في الوقت الذي عززت فيه حركة حماس سيطرتها على قطاع غزة عام 2007 بعد احداث دامية وحملة من الاقصاء مارستها بحق القوى الاخرى ، ممن "يعتنقون" ايدولوجيات مختلفة ، احداث اطلق عليها مسميات مختلفة : ( انقلاب ، انقسام ، تمرد .. وغيرها ) ، رفعت حماس شعار " المقاومة والتحرير ومقارعة الاحتلال بشتى الوسائل !! ويمكن اعتباره باكورة ما اطلق عليه " الربيع العربي " ، ومع بدء حكمها للقطاع اغلقت أفواه جميع المنتقدين لسياساتها ، تارة بتكفيرهم ، وتارة باتهامهم بالتواطؤ مع الاحتلال ، واقوى الاتهامات كانت ما يطلق عليه التنسيق الامني والمدني ، وحتى من يحمل ذات الايدولوجية الحمساوية لكنه غير راض عن بعض سياساتها راح ضحية معمعان سياسة الامر الواقع الذي تمارسه وشيع بعد ان قضى " في مهمة جهادية " حسب ادعاءات المتنفذين الحمساويين !!
استغلت حركة حماس انسحاب الاحتلال من القطاع عام 2005 واخلائه للمستوطنات المقامة على ارضه ، أحسن استغلال ، وشرعت باعداد العدة مع تنصيب محمود عباس رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية بعد فوزه بانتخابات جرت في الضفة الغربية وقطاع غزة ، لتنفيذ ما كانت تصبو اليه وهو بسط سيطرتها على القطاع !! وكانت اولى الخطوات الفوز بانتخابات المجلس التشريعي التي جرت عام 2006 وترؤوس الحكومة الفلسطينية بقيادة اسماعيل هنية ، لكنها لم تدم طويلا لفشلها في قيادة دفة الامور وتوفير الحد الادنى من العيش الكريم للمواطنين ، وتذمر الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني من سياستها الاقصائية التي مورست بحق الايدولوجيات الاخرى .
ويمكن القول ان فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 لم يات من التأييد المطلق للشارع الفلسطيني لها ، لكنه كان نكاية بالمتنفذين في حركة فتح الذين اساؤا ادارة الامور واشاعوا الفساد وحرصوا على تسمين مصالحهم الذاتية وذويهم ، ومن ثم رغبة الشارع الفلسطيني في التغيير، بما يمكن ان نصفه انه توسم بعض الخير من "عبدة الله" او ما اطلق عليهم "وكلاء الله في الارض " بعد ان جرب "عبدة الجاه والذات" او ما اطلق عليهم " وكلاء الشيطان " .
الاحتلال بدوره استغل الانقسام الفكري في الشارع الفلسطيني احسن استغلال ، ولم يكن خالي الشهوة من سيطرة حماس على القطاع ، ان لم يكن قد سهل وسخر بعض الوسائل لها !! وكان من دون شك يملك المعلومات الاستخبارية التي توحي الى ذلك لكنه لم يبلغ السلطة الفلسطينية بها لان في غاياته مآرب عديدة تفيده في تنفيذ مخططاته بحق الارض والشعب الفلسطيني ، واهمها فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية للحيلولة دون تنفيذ حل دولة فلسطينية ، وفي مقدمة هذه الغايات المشبوهة ، استغلال اتهام حماس بما يسمى " الارهاب " واتخاذه مبررا وذريعة تدفعه الى شن حروب وارتكاب مجازر بحق الغزيين وعموم ابناء الشعب الفلسطيني ، ومن قبل اضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة والتي لم يكن لها حول ولا قوة في ايقاف مخططات الاحتلال !! وهنا لا بد من القول ان ممارسات خاطئة من السلطة في الضفة واجهزتها الامنية والمدنية ومتنفذين بحركة فتح ، سواءا بقصد او عن غير قصد ، ساعدت الاحتلال في الوصول الى مبتغاه .
باكورة المخططات الاسرائيلية واستغلال الحالة الفلسطينية الانقسامية ورفض المجتمع الدولي ودول الجوار لسيطرة حركة حماس على القطاع ، كان اعتبار قطاع غزة كيانا ذات سيادة لكنه معاديا ، تبعه سلسلة من الغارات الوحشية والحروب المتقطعة على قطاع غزة بذريعة ما كان يطلق عليه الاحتلال " محاربة الارهاب " وايقاف ما وصف في حينه " اطلاق الصواريخ " والتي لم تكن سوى مواسير مصنعه محليا ذات جودة ضعيفة للغاية تحمل في ثناياها بعض المتفجرات !!
سبعة حروب شهدها قطاع غزة بين اعوام 2008 و 2023 ، استهدفت تارة حركة حماس وتارة اخرى حركة الجهاد الاسلامي ، ولكن كان ضحيتها آلاف من الابرياء العزل ومسحت عائلات من السجل المدني وهدمت خلالها مئات الابنية والابراج السكنية عن بكرة ابيها ، وزادت من سوء الاوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية بين سكان القطاع ، ناهيك عن الحصار البري والبحري والجوي على القطاع .
من دون شك أن الاحتلال زارع بذرة الانقسام ، يناسبه جدا الوضع الفلسطيني الراهن للمضي قدما في تحقيق اهدافه التي فشل مرات عدة في تحقيقها ، ويعمل على استمراره وتحويله الى وضع دائم ، وما استهدافه وعدوانه المستمر على كلا من قطاع غزة والضفة الغربية الا محاولات ضغط يمارسها الاحتلال لترويض السلطة الفلسطينية في الضفة وسلطة حماس في القطاع للاستجابة للاملاءات والشروط الاسرئيلية .
مع اختلاف الوضع ما بين الضفة الغربية التي يحكم الرئيس محمود عباس قبضته عليها ، وقطاع غزة التي تحكم حماس قبضتها عليه ، حيث مسارين مختلفين بالنهج والتطبيق ، الاول يسير ضمن دائرة الاصرار على التمسك ما بات يطلق عليه "الشرعية الدولية" والحفاظ على المكتسبات ولو بحدها الادنى وتحرك دبلوماسي لالزام سلطات الاحتلال التقيد بالقوانين والاعراف والاتفاقيات الدولية والتصدي لاجراءات سلطات الاحتلال والمستوطنين التعسفية بعيدا عن اللجوء الى التصدي المسلح والالحاح على ضرورة توفير الحماية الدولية .
المتتبع للسياسة الاسرائيلية يرى ان هذا التوجه يؤرق دولة الكيان ويضعها في حرج امام المجتمع الدولي الذي ينظر اليها كدولة ديموقراطية فيما اجراءاتها التعسفية تنفي هذا الادعاء جملة وتفصيلا ، ومع ذلك ورغم الارق الذي تسببه سياسة الرئيس ابو مازن الا ان سلطات الاحتلال تجدها مقبولة لتمسكها بالنهج السلمي ، وفي الوقت نفسه تحللها من المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية في المناطق التي تقع ضمن مسؤوليات السلطة الفلسطينية ، وتبقي منها فريسة سهلة تلتهمها حين تشاء ، دون اخفاء امتعاضها من رفض الرئيس ابو مازن والقيادة الفلسطينية الاعتراف بيهودية الدولة ، واخيرا تمسكه بالحق بالمقدسات الاسلامية واتلمسيحية في القدس وفي مقدمتها حائط البراق او ما يطلقون عليه " حائط المبكى ، او الحائط الغربي " ، واصراره على عدم التخلي عن الوفاء للاسرى ودفع استحقاقاتهم المالية سواءا المحررين منهم ، ام الذين ما زالوا يكابدون ويلات الجلاد .
وعلى الجانب الاخر، لا تكف دولة الاحتلال عن توجيه ضرباتها العدوانية وحصارها الجائرعلى قطاع غزة ، تحت ذريعة سيطرة حركة حماس عليه ، وتهديدها للامن الاسرائيلي ، والاصرار على اعتبار القطاع كيان مستقل معادي لدولة الكيان ، والابقاء عليه مسرحا للغارات العدوانية ، حال واصلت حماس تطوير اسلحتها واستهداف المدنيين بشكل مباشر ومن ثم الاجنحة المسلحة لابقائها ضعيفة غير قادرة على تهديد دولة الكيان ، والتخفيف عنها عبر المنفذ القطري ، لاجل ترويض الحركة وسائر ما تطلق على نفسها حركات المقاومة في قطاع غزة دون ان تكون معنية او تعمل بشكل جدي للاطاحة بسلطة حماس حتى لا ينتهي الانقسام ، وهو ما بدى واضحا في العدوان الاخير على القطاع والذي استهدف حركة الجهاد الاسلامي وقياداتها ، حيث وقفت حركة حماس على الحياد وذلك ضمن مساعيها الابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الاحتلال كشكل من اشكال حسن النوايا لديها لنيل الاعتراف بها ممثلا للشعب الفلسطيني بدلا من منظمة التحرير الفلسطينية المتاكلة ، والاستئثار بحكم قطاع غزة دون منافس .
في المحصلة فان استمرار الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة ، حيث سلطة غير قادرة على تحقيق احلام شعبها والوفاء بالتزاماتها ، وفساد ينخر عظامها في الضفة ، واخرى ضعيفة تكرس جهدها لاحكام قبضتها على قطاع غزة والاستئثار به مهما كلف الامر دون وازع او رادع ، ولكل منهما اجندته الخاصة وهمهما الاول مناكفة بعضهما البعض وكيل الاتهامات ، دون الالتفات الى مصالح الاغلبية البسيطة الصامتة من الشعب ، والمصلحة الوطنية العليا ، رغم لقاءات متعددة وحوارات وجدالات اغلبها كانت "بيزنطية" للمصالحة باءت بالفشل لتعنت كل جهة برايها ، فيما دولة الاحتلال تغذي الانقسام وتدفع باتجاه ديمومته واللعب عليه ، ضمن سياسة " فرق تسد " وابقاء السلطتين ضعيفتين منهكتين وتحت رحمتها وخلق الازمات الاجتماعية والاقتصادية لهما والهائهما بها ، ومن ثم العطف عليهما بتقديم القليل من المساعدات لاجل تحسين الصورة امام المجتمع الدولي ، وفي الوقت نفسه ، مواصلة تنفيذ المخططات التهويدية وصولا الى تحقيق حلم ما يسمى " اسرائيل الكبرى " على ارض فلسطينية دون الالتزام بمسؤوليات يفرضها القانون الدولي على سكانها الفلسطينيين ، لوجود سلطتين تقوم بدورهما حتى لو كان معدوما او رمزيا !!
ستة عشر عاما من الانقسام ، والاستمرار بسلطتين فاشلتين الى حد كبير، وجودهما محفوف بالمخاطر لانه مرهون برضى اسرائيلي مؤقت وغير دائم ، الى حين تحقيق الحلم الكبير الذي يصبو اليه محتل يعمل لاجل قضيته بكل تفان ، فيما صاحب الارض الاصلي يرفع شعار التمسك بحقوقه دون فعل حقيقي يوحي الى ذلك لانه يدور في دوامة الذاتية الفئوية دون الالتفات الى المصلحة الوطنية العليا ، والشعب تائه ولا زال يدفع ثمن هذا الانقسام البغيض