نعود، اليوم، إلى نهاية يتعزز حضور المأساوي فيها بقدر ما تشهد من تصعيد للكوميديا السوداء.
المقصود مرافعات أدونيس في أيامه السعودية، ومديح مضيفيه بعبارات من نوع، وعلى وزن: "أنتم الذين تنظرون إلى بلدكم كأنه عمل فني، وتحوّلونه إلى قصائد وتماثيل وموسيقى وعمران، وكل ما يزيد الحياة جمالاً".
ولا معنى لعودة كهذه إذا جاءت كمحاولة للتدليل على علاقة المذكور الانتقائية بالحقيقة، وضرورة التعامل مع عباراته الإنشائية بقدر من الصرامة الأخلاقية. فثمة، بالتأكيد، ما هو أهم وأبقى: مدى انسجام المرافعات الأدونيسية مع سيرة صاحبها؟ ومعنى الحداثة الأدونيسية نفسها؟
في أسئلة كهذه، وما يدخل في حكمها، نضع أقدامنا على أوّل الطريق. ونحتاج، كالعادة، إلى خرائط وعلامات.
وأعتقد أن أفكار صادق جلال العظم عن أدونيس في "دفاعاً عن المادية والتاريخ" (1990) الذي أعدتُ قراءته بنهم في الأيام الأخيرة، تُسهم في بلورة إجابات محتملة ومنطقية عن السؤالين السابقين. فأدونيس، في "الثابت والمتحوّل"، وما نبت على حوافه، وأعاد تدويره وإنتاجه على مدار عقود، والكلام للعظم: "لا يدعو حقاً إلا للطروحات الأكثر رجعية، وارتدادية، وأصولية".
تبدو خلاصة كهذه "مفاجئة" في زمن "ثقافة التسامح" ووزاراتها وجوائزها ومهرجاناتها من ناحية، ولأن أدونيس يستفيد من تداخل بين مفهومين للحداثة من ناحية ثانية. فض التداخل، إذاً، وما نجم عنه من التباس، يسوّغ مرافعة العظم، ويُضفي عليها ما تستحق من وجاهة منطقية.
وفي هذا الصدد، يميّز العظم بين مفهومين مختلفين للحداثة في التاريخ الأوروبي.
الأوّل Modernity يعني تحوّلات اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، تبلورت في القرن التاسع عشر (الرأسمالية، التمركز الحضري، الطبقة الوسطى، العلوم، ربيع الشعوب). والثاني Modernism الذي يعني حركة أدبية وفكرية عامة مناهضة للنزعة المادية، والعقلانية الرياضية، و"نزع السحر عن العالم"، وقد اجتهدت في استلهام الطبيعة، والأساطير القديمة، والمعتقدات الدينية، وما هو "أصلي وأصيل" في تاريخ الإنسان، وفي بلورة وابتكار أنماط وأشكال تعبيرية جديدة.
وكما بحثت الحداثة الأوروبية بدلالتها الثانية، عن حقيقة أولى ومطلقة، وعثرت عليها في لحظة استثنائية تجلى فيها حضور المقدّس في التاريخ، بحثت الحداثة العربية بتمثيلاتها ومحاكاتها للحداثة الأوروبية بدلالتها الثانية، عن لحظة استثنائية "عربية"، وعثرت عليها في حلول المقدّس الديني في التاريخ، أيضاً.
لذا، و(وما زال الكلام للعظم) تصدر دعوة أدونيس الحداثية، وكذلك نقده للتراث العربي، عن التمييز بين ثابت تجلى تاريخياً في النص القرآني، ومتحوّل هو كل ما نبت على حواف النص من تاريخ وتفاسير وفنون وآداب. وهذا الثابت، بالذات، هو مصدر نقده لعصر النهضة العربي بوصفه "تجويفاً فارغاً في التاريخ الثقافي العربي"، وكلامه عن إفلاس الحركات القومية والاشتراكية والماركسية في العالم العربي، لأنها نبتت خارج الحقل الديني. ودفاعه عن "ولاية الفقيه" في إيران.
للأفكار، ولأسباب وثيقة الصلة بتحوّلات الواقع المادي نفسه، حياة خاصة. فهي لا تموت بموت أصحابها. وبهذا المعنى ثمة ما يمكن أن يُضاف إلى مرافعة العظم بشأن الرجعي والارتدادي (النكوصي) والأصولي وراء قناع الحداثي في حالة أدونيس.
فلا يبدو من قبيل الصدفة، مثلاً، على ضوء ما تقدّم، أن نراه وقد أنشأ صلة دلالية بين "النهضة" ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا ومحمد بن عبد الوهاب (الذي خصّه بلقب الشيخ الإمام دون الآخرين) هؤلاء هم روّاد السلفية في عرف مؤرخي الأفكار. والبديل الحقيقي، في نظره لسد التجويف الثقافي بمنتجات عضوية. وهم، على الأرجح، الدليل الأكثر صدقية على طريق العودة إلى لحظة حلول المقدس في التاريخ العربي.
فهمنا، حتى الآن، أنه استعار لحظة حلول المقدّس من الحداثة الأوروبية بدلالتها الثانية، وقام بتعريبها. ولنلاحظ، هنا، أن "النهضة" بمفهوم Renaissance شيء (العودة إلى الأزمنة القديمة، والفلسفة الإغريقية)، والإصلاح الديني  Reformation شيء آخر، وأن "السلفية" لدى أصحاب الاختصاص في تاريخ الأفكار، أقرب ما تكون إلى حركة الإصلاح الديني البروتستانتي لا إلى "النهضة".
وأسوأ ما في هذا الخلط والاختلاط أن "القرب" قد نجم، في الأكاديميا الغربية عن خطيئة تكوينية أولى، تجلّت في سوء فهم مروّع للوهابية بوصفها حركة إصلاحية. وهذا، بدوره، فرض تأويل حربها الضروس على الأضرحة، وشواهد القبور والنُصب كفعل يحاكي عودة البروتستانتية إلى بساطة المسيحية الأولى.
والمُلاحظ، في هذا الشأن، أن الفعالية الثقافية للأضرحة والشواهد لم تنل ما تستحق من اهتمام بوصفها مكوّناً عضوياً من مكوّنات الدين الشعبي، وميراث القرون. ومع ذلك، لم يفشل مراقبون في الشرق والغرب على حد سواء في إنشاء صلة دلالية بين الوهابية، وتدمير الدواعش لآثار عمّرت آلاف السنين في سوريا والعراق.
ومع هذا كله في البال، يبقى أن الحداثة الأدونيسية انتقائية، أيضاً. فعلى الرغم من حكم صاحبها على الحركات القومية والاشتراكية والماركسية في العالم العربي بالإفلاس لأنها نبتت خارج الحقل الديني، إلا أنه انتقد الثورة السورية، ورفض بالكلمات نفسها تأييد "ثورة تخرج من المساجد" (أي نبتت في الحقل الديني). واللافت، هنا، أن تناقضاً كهذا يُضفي دلالة إضافية على معنى "الرجعي" في تعريف العظم للحداثة الأدونيسية بوصفها معادية للثورة، أيضاً.
التقيت صادق جلال العظم، في أيامه البرلينية الأخيرة والحزينة. وقد كان في مجرد وجوده الطوعي، في المنفى، ترجمة لتحيّزات سياسية وأخلاقية مُكلفة، ما يضفي دلالة شخصية تماماً، وبطولية تماماً، على دفاع المثقف النبيل في وقفته الأخيرة عن "المادية والتاريخ".