كل قضية صراع، مهما كبرت، حتى لو وصلت إلى حالة حرب تقليدية واسعة المساحة، تجد مع نشوبها من يتدخل لوقفها، وإيجاد حلول سياسية لها.

حتى الحرب الروسية – الأوكرانية، التي تلامس نارها الشديدة الاشتعال حدود المحذور النووي، والتي هي حرب كونية بالمشاركة المباشرة فيها وبالتأثر المباشر بعصفها، وجدت منذ بدايتها من يستثمر في اقتراح حلول لها، حتى لو بدا ذلك مستحيلاً، فهذا هو القانون الذي يحكم علاقة الدول بالحروب.

قضية الصراع، التي أنتجت حروباً وتسويات، ولكنها لا تزال مستمرة حتى وصفت بالمزمنة، هي القضية الفلسطينية، التي ينطبق عليها وعلى الجهود التي تُبذل لحلها، القول؛ ما أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام حتى تتراجع خطوتين إلى الوراء، وما أن تنطفئ حرائقها لموسم أو لعدة مواسم، حتى يُستأنف الحريق مضاعفاً على نحو يجعل إطفاءه مستحيلاً.

ولو نظرنا إلى مجمل قضايا الصراع التي أنتجت حروباً، لوجدنا أن القضية الفلسطينية هي أكثر قضية بُذِلت من أجل حلها جهود جدية، إلا أنها باءت بالفشل، وآخرها عندما اتفق الكون كلّه على حلّها، بداية من مدريد، ومروراً بأوسلو، وليس انتهاء بكامب ديفيد، ورغم ذلك لم تفشل المحاولة الكونية فحسب، بل أعادت الصراع إلى حال أشرس وأشد تعقيداً عما كان عليه في جميع أحقابه السابقة.

والآن، وبينما العالم كله منشغل بالحرب الأوكرانية - الروسية، والحروب الصغيرة المتناثرة حولها في الشرق الأوسط (إسرائيل، وفلسطين، ولبنان، وسوريا، وغيرها)، لم يبقَ متسع لمعالجة القضية المزمنة «الفلسطينية»، إلا من خلال هوامش ضيقة وجانبية، قد تطفئ حريقاً لعدة أيام، إلا أنها لا تمنع نشوب حريق أوسع.

فشل المحاولات الكونية لحل هذه القضية، ولَّدَ يأساً دولياً متفقاً عليه ضمنياً بإغلاق ملف الحل السياسي مع اعتماد متفق عليه كذلك بتنفيس حالة الاحتقان الدائم، عبر ترتيبات جزئية، تتخذ طابع التهدئة المؤقتة، أي نزع الصاعق من القنبلة لأيام أو أسابيع حتى أشهر لا أكثر.

في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ظهر قانون حكم الحالة، وهو كلما تواصل إغلاق الملف السياسي... تنفتح ملفات العنف المتبادل، ذلك أن كل ما يجري بين الطرفين محكوم بنظرية «القنبلة والصاعق». وما أقرب جمعهما لإحداث انفجار، وها هي الحالة في غزة والضفة تؤكد ذلك؛ في غزة حصار وحرب، وفي الضفة احتلال واستيطان ومقاومة... وبين الساحتين تتنقل كرة النار.

الملف المغلق... وحالة «الصاعق والقنبلة»، لا يقتصر فعلهما على الشريط الضيق، حيث جغرافيا فلسطين وإسرائيل. وإنما يمتد ليطول المحيط الأوسع، فها هي إسرائيل تحذر من جبهات كثيرة، ناشطة وكامنة. وفي غياب فتح الملف السياسي، فصبّ الزيت على النار هو البديل الجاهز دوماً.

المقاول الذي أسندت إليه عملية الحل بين فلسطين وإسرائيل هو الأميركي. الذي تجمد حالياً بين انعدام الرغبة، وانعدام المبادرة، وله في هذه الحالة تفسيراته ومبرراته، حتى أضحى معضلة توازي المعضلة الأصلية، وهذا أنتج ما نحن فيه الآن «هشيمٌ ينتظر عود ثقاب ليشتعل».

والسؤال؛ هل حقاً هناك استحالة لفتح الملف السياسي إلى حد اليأس، أم أن الضرورة تُملي فتحه في الزمن الذي فتحت فيه ملفات كانت أصعب وأخطر، فإذا بها تتجه نحو الحل؟ مراقبون موضوعيون يرون فرصة، أنتجتها التطورات التصالحية التي تسارعت في المنطقة، حيث التبريد الفعال للمراجل التي تغلي، حيث الإجماع العربي الذي تحدد في قمة جدة حول المبادرة السعودية – العربية – الإسلامية للسلام.

المانع الوحيد من فتح الملف السياسي هو التكيف الأميركي مع عدم جاهزية إسرائيل لقبول فكرة التسوية السياسية مع الفلسطينيين، مع مضيها قدماً في تقليب أوراق ملفات العنف والاشتعال واعتصار الوقت لفرض أمر واقع دائم، لتكون التسوية السياسية فيه أمراً مستحيلاً.

وإذا كان التكيف الأميركي أدى إلى ما أدى إليه من إغلاق، بلغ حد اليأس، فإن ما تحتاجه المنطقة، وما يفترض أن تحتاجه المصلحة الأميركية، يتطلب من أميركا خصوصاً مغادرة منطقة المراوحة بين انعدام الرغبة وانعدام المبادرة، لتتعاون مع دول الإقليم في الأمر الوحيد المجمع عليه، وهو المبادرة العربية للسلام.

إن فتح الملف المغلق صار ضرورياً، ليس من أجل الفلسطينيين والعرب، بل من أجل المنطقة واستقرارها.