من أولويات حق العقل علينا أن نُعمله لتدبير أمور حياتنا الخاصة والعامة، وإن كان الأفراد يخضعون لتأثيرات متناقضة ما بين نوازع العقل ونوازع العاطفة فإن الدول ومن يحكمها من قيادات، يفترض أن تغلِّب العقل على العاطفة، وحتى بالنسبة للشعوب الخاضعة للاحتلال يجب أن تخضع للعقل والعقلانية في ممارستها للسياسة وللمقاومة، فهذه الأخيرة ليست فعلاً عاطفياً وانفعالياً أو مجرد ردة فعل على الاحتلال وممارساته العدوانية بل تحتاج لوجود رؤية واستراتيجية عمل وطني، ومن حق العقل علينا كفلسطينيين نتعرض لتهديدات تمس وجودَنا الوطني أن نُوقف حالةَ العبثية والتخبط التي أصبحت تحكم وتسيّر كل مناحي حياتنا، في العمل السياسي والدبلوماسي وفي نهج المقاومة.
غياب العقل والعقلانية عند الطبقة السياسية لا يعبر دائماً عن جهل بل قد يكون عملاً مقصوداً لتضليل الجماهير وجعلها تعيش في أوهام، لأن الخطاب المتعالي والمنفصل عن الواقع والذي يدغدغ مشاعر الجماهير دون أن يلامس العقل كالحديث عن التمسك بالثوابت الوطنية والتأكيد على الوحدة الوطنية أو عن التضامن العربي والإسلامي مع قضية فلسطين وتضخيم خطاب المقاومة والتحرير... دون ممارسة على الأرض تتوافق مع هذه الشعارات ، أمور غير عقلانية تضر بالقضية الوطنية أكثر مما تنفعها.
مؤشرات الخروج عن العقل والعقلانية في العمل السياسي الفلسطيني متعددة منها ما يتعلق بالعمل السياسي الرسمي للقيادة ومراهنتها على التسوية السياسية والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية ليعيدوا لنا حقوقنا المسلوبة ويحموا الشعب من بطش الاحتلال ولم تتراجع عن هذه المراهنات بالرغم من تدهور وتراجع دور الأمم المتحدة وفشلها في حل أي نزاع دولي ، وهي مراهنة أقرب للوهم و تخفي في ثناياها حالة عجز وفشل في القيام بالواجب الوطني، ومنها ما يتعلق بالمقاومة المسلحة ونهجها والانزلاق نحو تغليب المصالح الحزبية والشخصية وحسابات أجندة خارجية متعددة.
وحيث إننا كتبنا وتحدثنا مطولاً عن فشل نهج التسوية السياسية وأوهام المراهنة على الشرعية الدولية فقط لاستعادة حقوقنا المشروعة، فسنخصص هذا المقال لموضوع غياب العقلانية في ممارسة المقاومة المسلحة وخصوصاً الصواريخ المنطلقة من غزة.
نعم، المقاومة حق مشروع للشعوب الخاضعة للاحتلال، ولكن يجب ممارسة هذا الحق بعقلانية وبتخطيط حتى نتجنب ردة فعل من العدو تُوقِع خسائر أكثر مما يُنجز الفعل المقاوم، فكم من حقوق أضاعها أصحابها لسوء تصرفهم وليس لقوة الخصم، المقاومة حق ولكن: أين ومتى وكيف يُمارَس هذا الحق؟
سواء أسميناها مقاومة أو جهاد أو حركة تحرر فهي تندرج في سياق المقاومة الشعبية أو حرب تحرير شعبية، والمقاومة الشعبية تحتاج لاستراتيجية وطنية تكاملية توظف كل طاقات وإمكانيات الشعب لمواجهة الاحتلال.
نتفهم حالة الغضب والحقد على الاحتلال كما نتفهم حالة التعاطف والتأييد الشعبي لكل عملية نضالية تستهدف العدو، سواء كانت إطلاق صواريخ من غزة أو عملية فدائية في الضفة المحتلة، إلا أن العقل يحتم على المقاومين معرفة أو توقع ما يفكر به العدو وردة فعله وليس الاكتفاء بالحديث بعد العملية عن البطولات والانتصارات، فحسابات النصر والهزيمة تشمل الفعل وردة الفعل والمقارنة بينهما، كما أن ردة فعل العدو لن تقتصر على الجماعة التي قامت بالعمل الفدائي بل سيَدفِع الشعب والمشروع الوطني كله الثمن.
ودعونا نخضع الأمور التالية لحسابات العقل والعقلانية وهل بالفعل كان التعامل مع هذه القضايا عقلانياً ويخدم المصلحة الوطنية:
1- عندما تم تبني خيار السلام والتسوية السياسية بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني ورفضت حركتا حماس والجهاد الإسلامي هذا النهج انقسم الشعب وأصبح نصفه مع الحل السلمي التفاوضي ونصفه مع استمرار الكفاح المسلح، وكل طرف يشكك في الآخر ويخونه ويعمل على إفشال مساعيه.
2- بعد خروج جيش الاحتلال من غزة بمقتضى المخطط الصهيوني الذي نفذه شارون خريف 2005، أعلنت الفصائل المسلحة أن المقاومة في غزة أجبرت إسرائيل على الانسحاب، ومع افتراض صحة هذا القول كان من المفترض والمطلوب أن تنقل حالة المقاومة المسلحة إلى الضفة الغربية لتحريرها أيضاً، وأن يتفرغ الفلسطينيون لبناء القطاع وتنميته وإثبات قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم بطريقة ديمقراطية وعقلانية، ولكن الذي جرى أن حركة حماس تفردت بحكم غزة وحدث الانقلاب وما هو قريب من الحرب الأهلية كما تعاظم تسليح غزة وأصبحت تطلق صواريخ على إسرائيل، مما أدى لعودة التصعيد في القطاع بينما كانت المقاومة المسلحة شبه متوقفة في بقية الأراضي الفلسطينية.
3- جاء الانقسام وحديث (الحرب على غزة) الذي اخترعته وروجت له قناة الجزيرة القطرية وكأن الضفة والقدس لا تشهد حرباً وعدواناً أكثر خطورة، وأصبحت المعركة وكأنها بين الكيان الصهيوني وقطاع غزة، وفي المواجهة الأخيرة بدت وكأنها بين الكيان الصهيوني وحركة الجهاد الإسلامي، وحتى داخل الضفة لم يكن هناك أي استراتيجية للمقاومة، بل نجد أحياناً من يشكك بأعمال المقاومة الفردية.
4- إذا كانت حركة حماس تعلم أن إسرائيل التي تمنع قيام سلطة ذات سيادة في الضفة يحكمها من اعترفوا بها ويرفضون العمل العسكري، فهل تعتقد حماس أن إسرائيل ستسمح لها بتأسيس سلطة سياسية في الضفة الغربية. وسؤال آخر: لماذا تعمل حركة حماس على إضعاف السلطة الوطنية في الضفة، سلطة منظمة التحرير الفلسطينية وعنوان المشروع الوطني، وحركة حماس أوقفت المقاومة المسلحة عبر حدود قطاع غزة مقابل الحفاظ على سلطتها وحياة قياداتها؟
5- أين حسابات العقل في (مقاومة) الصواريخ والأنفاق؟
بالرغم مما تثيره الصواريخ من قطاع غزة تجاه الأراضي المحتلة من مشاعر وأحاسيس عاطفية وحالة تأييد شعبي، إلا أنه من خلال إعمال العقل والتفكير المنطقي بالهدف من وراء إطلاق الصواريخ والنتائج المترتبة على ذلك سواء من خلال ردود الفعل المدمرة للعدو، أو ردود الفعل الدولية حيث ينظر العالم إلى الأمر وكأنه اعتداء من جماعات مسلحة على دولة عضو في الأمم المتحدة.
صحيح أن صواريخ المقاومة تحدث حالة فزع ورعب عند بعض الإسرائيليين وتؤثر على مجريات الحياة العادية إلا أن العدو يستطيع بسهولة استيعاب الضربة وإعادة الأمور خلال أيام بل ساعات الى ما كانت عليه، أما ردود فعل العدو وصواريخه فتلحق أضراراً مع كل جولة حرب تتراكم ويصبح من الصعب إصلاحها وتجعل قطاع غزة وفصائل المقاومة أكثر خضوعاً لابتزاز العدو والجهات المانحة، هذا بالإضافة الى التداعيات السياسية حيث تبعد مواجهات غزة الأنظار ما يجري في الضفة.
من فكر بمواجهة العدو بالصواريخ والإنفاق إما أنه وطني ولكنه يفتقر لأية معرفة بحروب التحرير الشعبية واستراتيجياتها وبالتالي عمله لا يندرج في السياق التحرري الوطني، أو أنه يعمل لصالح جهات خارجية تهدف للحفاظ على التوتر في فلسطين وعلى جبهة غزة لصالح أجندة خاصة بها لا علاقة لها بتحرير فلسطين.
فكيف تحصر حركة مقاومة فعلها المقاوم في المربع العسكري الذي يتفوق فيه العدو كثيراً، وأين العقلانية في تفكير يعتقد أن الصواريخ والأنفاق يمكنها أن تحرر أرضاً؟
أين العقلانية في سيطرة حزب على جزء من الأراضي المحتلة (قطاع غزة) ما زال يخضع للاحتلال والحصار ويتحكم العدو بكل منافذه ويتحكم بكل ما يحتاجه الشعب من مقومات حياة من المواد الغذائية والطبية ومواد الإعمار والسفر والتجارة إلى الأموال القطرية التي تسدد بها سلطة حماس جزءا من رواتب موظفيها؟!!! ومع ذلك يتم إطلاق الصواريخ تجاه هذا العدو ويصرح قادة مقاومة بأنهم سيدمرون إسرائيل وأنهم حققوا توازن قوى ورعب معه؟!!!!!
أين العقلانية وأبسط متطلبات استراتيجيات حروب التحرير الشعبية عندما تطلق فصائل المقاومة مئات وآلاف الصواريخ على العدو بدون أن تلحق به أضرار بشرية أو مادية ذات أهمية حيث يكون العدو استبق الأمر بدعوة مواطنيه للتحصن بملاجئ معدة مسبقاً أو نقلهم لأماكن أمنة، بينما صاروخ واحد من العدو يمكنه تدمير برج سكني أو مؤسسة صناعية ويمحوه بالكامل؟ وسكان القطاع بدون ملاجئ أو أماكن آمنة وتحت أنظار طائرات الاستكشاف وأبراج المراقبة؟
أين العقلانية عندما تعلن حركتا حماس والجهاد عن انتمائهم لمحور المقاومة وتتحدثان عن وحدة الساحات في الوقت الذي يتواصل فيه الاستيطان والإرهاب والعدوان المتكرر على القطاع ويتم تدنيس المسجد الأقصى بل سيطرة اليهود عليه... ولا نسمع أو نرى أي رداً من محور المقاومة-إيران وسوريا وحزب الله- والأنكى من ذلك إعلان بعض قادة المقاومة أن غزة لن تسكت في حالة العدوان على ايران!!
وأخيراً بعد ما آلت إليه القضية الوطنية وبعد وصول الطبقة السياسية الى طريق مسدود وأصبحت معنية بالحفاظ على مصالحها وامتيازاتها أكثر من حرصها على المصلحة الوطنية، مطلوب أن يتوقف الشعب عن المراهنة على الأوهام والشعارات الكاذبة التي تروجها الأحزاب، سواء كانت شعارات الشرعية الدولية والتسوية السياسية أو شعارات المقاومة والجهاد، وخصوصاً وقد رأينا ما آلت إليه الأمور في الضفة والقدس في ظل سلطة وضعت كل بيضها في سلة المراهنة على السلام وعلى الشرعية الدولية، وما آلت إليه الأمور في قطاع غزة في ظل سلطة فصائل المقاومة المسلحة ومطلقي الصواريخ.