.. وكأنّ بنيامين نتنياهو كان ينقصه الفشل!
بصرف النظر عن كلّ ما قيل، وما زال يُقال، وعن كلّ ما سيُقال في أبواق الدعاية عن عملية "الخمسين" ساعة، وبصرف النظر عن كلّ ما سينجم عن الهجوم الإسرائيلي على مُخيّم جنين ومدينته الوفيّة، فإنّ الدافع الرئيس لهذا القدر من الإجرام، ومن الرغبة الجامحة للتوغُّل في دماء الفلسطيني هو الفشل.
سجّل نتنياهو أرقاماً قياسية في هذا الفشل.
فقد فشل إلى حُدود الفضيحة في معركته "الحاسمة والمصيرية" حول "الإصلاح القضائي"، وتحوّل "نجاحه" في هذه المعركة المصيرية، إذا قُدّر له أن يواصلها إلى وصفة أكيدة للحرب الداخلية الطاحنة في "واحة الديمقراطية" في كامل الإقليم. وهي حرب ما زالت على جدول الأعمال، ولا يستطيع أحدٌ كائناً مَنْ كان أن يجزم بعكس ذلك.
وليت أنّ الأمر يقف عند هذا الحدّ!
مُصيبة نتنياهو هي أنّه إذا خسر هذه الحرب، أو تراجع عن خوضها فهو شخصياً سيدفع الثمن، وحزبه سيدفع الثمن الأكبر والأخطر، وحكومته التي يستظلّ بها للهروب من المُحاكمة ستسقط، وبذلك فإنّ استنكافه عن مواصلة حرب "الإصلاح القضائي" ستكون بمثابة، ليس العودة إلى المُربّع الأوّل فقط، أو الرجوع إلى دائرة الصفر.. وإنّما الوصول إلى الانهيار التامّ والغرق المحتوم.
كما سجّل نتنياهو فشلاً مُدوّياً في قصّة تَوالي "انتصاراته" "التطبيعية"، وتأكّد له بالملموس والمحسوس أنّ "تطبيع" علاقات دولة الاحتلال مع "العربية السعودية" يحتاج إلى "أثمان" لا يقوى على دفعها، فإنّ مصيره ليس أفضل حالاً من مصيره الذي تحدّثنا عنه أعلاه.
وفشل نتنياهو فشلاً مُدوّياً آخر في جرّ المؤسّسة العسكرية والأمنية لديه، والتي هي من نفس بطانته، وتوجّهاته أحياناً، إلى شنّ "الهُجوم" الذي ظل يتبجّح به حول ضرب "المفاعلات النووية الإيرانية"، وكان هذا الفشل بالذات فشلاً مزدوجاً، لأنّ الإدارة الأميركية ما زالت مُتردّدة في السماح له بهذا الهجوم، بالرغم من أنّها ــ أي الإدارة الأميركية ــ تُراقب سَيْر المعارك في أوكرانيا، وما زالت تأمل بسماع بعض الأخبار "السّارة" من هناك، وخصوصاً بعد النكسة التي ألمّت بها إثر فشل محاولة التمرُّد التي قادها زعيم منظمة "فاغنر" هناك.
وستكون الطّامة الكبرى على رأس نتنياهو قد وقعت إذا ما تمّ توقيع اتفاق جديد، حتى ولو مؤقتاً، وكجزءٍ من الاتفاق الشامل بين الإدارة الأميركية وإيران.
وفشل نتنياهو في "إقناع" الإدارة الأميركية بترتيب زيارة له إلى البيت الأبيض، وفشل بإحداث أيّ تغيير في موقف الاتحاد الأوروبي من التوسُّع الاستيطاني، وعلاقاته "الدولية" ــ باستثناء العمليات العسكرية في الضفة ــ متردّية، وسنأتي على المواقف الدولية من هذه العمليات.
وعلى المستوى الاقتصادي لا يبدو أنّ نتنياهو  وحكومته قادرين على تفادي الصعوبات الاقتصادية التي تلوح في الأفق الإسرائيلي، ولا يبدو أنّ "المعارضة" الإسرائيلية في الشارع مستعدة لإبقاء المسائل الاقتصادية والاجتماعية خارج نطاق الصراع السياسي بين طرفي معادلة الصراع السياسي في دولة الاحتلال، خصوصاً إذا تحوّل هذا الصراع ــ وهو يتحوّل ــ إلى صراعٍ على طبيعة الدولة، وعلى النظام السياسي فيها، وعلى علاقة الدين بالدولة، وعلاقة الدين بالسياسة، هذا ناهيكم إذا امتدّ هذا الصراع أفقياً إلى قطاعات الأمن، والصحّة والتعليم، والصناعات "الرياديّة"، وصولاً إلى السياحة والزراعة وباقي القطاعات.
وعلى هذا الصعيد تحديداً فإنّ التحذيرات تتزايد يوماً بعد يومٍ من أزمةٍ اقتصادية أصبحت على الأبواب، ومن جهاتٍ محسوبة على نتنياهو نفسه.
وفشل نتنياهو في مسألة الأمن فشلاً صارخاً، لأنّ الحرب التي شنّها على قطاع غزة لم تؤتِ ثمارها، وتواصلت أعمال المقاومة في الضفة، وازدادت "المجموعات" صلابةً وحذراً، وبدت في الآونة الأخيرة أكثر تنظيماً، وأعلى تنسيقاً، وتعاظمت بصورةٍ لافتة الحاضنة الجماهيرية لهذه المجموعات، وتعاظم المدّ الشعبي نحو حمايتها والدفاع عنها وعن نهجها.
أمام هذا الفشل في كلّ الملفّات، لم يتبقَّ أمام نتنياهو سوى شنّ معركةٍ كبيرة ضدّ "بُؤَر" المقاومة في مُدن الضفة، وفي مخيّماتها، واختار أن يكون مخيّم جنين هو بداية الحرب التي باتت ملاذه الأخير، لخلق "صورة" قد تساعده على تجاوز أزمات الفشل المُتتالية.
على هذا الأساس، ومن على هذه القاعدة تحديداً "خطّط" نتنياهو ومنذ عدّة أسابيع على أقلّ تقدير لشنّ معركته ضد المخيّم.
وإذا أردنا التفصيل قليلاً فإنّ دوافع نتنياهو يُمكن إجمالها بالتالي:
أوّلاً: اتّخذ نتنياهو القرار بأن يتجنّب اجتياح كامل مُدن وقرى ومخيّمات الضفة، وذلك تفادياً "لدخوله" في حربٍ أشمل قد تتحوّل إلى حربٍ إقليمية.
ما كان نتنياهو ليضمن لنفسه بقاء المعركة محصورة في جنين أو محيطها، أو في الضفة، أو غزة، أو حتى جبهات أخرى لو أنّه غامرَ وقامرَ بالاجتياح الشامل.
ثانياً: اعتقد نتنياهو أنّ تحقيق نصر ما في هذه المعركة سيساعده على "امتصاص" الحالة الداخلية في إسرائيل، وربّما يساعده على إعادة العلاقة مع الإدارة الأميركية نحو "التطبيع" معها، واعتقد أنّ فصل القطاع سيظلّ مضموناً ما دامت المعركة محدودة ومحصورة في جنين ومخيّمها، وكان على حقّ هنا.
ثالثاً: اعتقد نتنياهو ــ وهو على حقّ هنا، أيضاً ــ أنّ الوضع الإقليمي والدولي لن يثور في وجهه، وأنّ الحالة الرسمية الفلسطينية في الضفة والقطاع لن تُغامر بقلب الطاولة في وجهه طالما أنّ العملية محصورة في جنين ومخيّمها، في حين أنّ حسابات الأجهزة الأمنية لديه حذّرته من أنّ توسيع العملية إلى أبعد من ذلك قد يؤدّي إلى نتائج عكسية.
لهذا كلّه اختار نتنياهو أن يبدأ من جنين ومخيّمها، وكانت هذه البداية هي "غلطة الشّاطر" فعلاً.
فقد تبيّن لنتنياهو ولجيشه، وأذرعه الأمنية أنّ المجموعات الفلسطينية المقاومة كانت هي بدورها تجهّز نفسها لهذه المعركة، وأنّها أعدّت له ولجيشه وأذرعه الأمنية الكثير من المُباغتات التي ربّما لم تخطُر على بال الجميع منهم. فقد مارست هذه المجموعات المقاومة حرب عصاباتٍ حقيقية، وبعد انقضاء النصف الأوّل من هذا الهُجوم الإسرائيلي على جنين ومخيّمها تحوّلت المعركة بأن فقدت القوات الإسرائيلية زمام المبادرة، وأصبحت هي الهدف لضربات المقاومين.
من دون مُبالغات لا طائلَ من خلفها، ومن دون أيّ تهويل، ومن دون أيّ انجرار للرواية الرسمية الإسرائيلية، وما احتوته من أكاذيب، فإنّ المعركة قد انتهت إلى فشلٍ إسرائيلي كبير بالمقارنة مع ما أعلنته إسرائيل نفسها عن أهداف وتوقُّعات.
هذه المعركة على ما أظنّ ستتحوّل، إن لم تكن فعلاً قد تحوّلت إلى مرحلةٍ نوعيّة جديدة في مقاومة الاحتلال، وسيكون لها ما بعدها، وستترتّب عليها تبعاتٍ وطنية كبيرة.
وهي تحذير ونذير لقوات الاحتلال، وهي بمثابة تحذير ونذير لـ "الرسمية" الفلسطينية في الضفة والقطاع، لأنّ هذا النمط الجديد، من الجيل الجديد، لمقاومة الاحتلال سيسحب البساط من تحت أرجل الاحتلال، ومن تحت أرجل هذه "الرسمية"، بعد أن لمس الجيل الجديد من المقاومة عُمق الالتفاف الشعبي حول الظاهرة، وبعد توحُّد الشعب كلّه حول المُخيّم ومدينته الوفيّة.