نقرأ من حين إلى آخر "تحليلات" يؤكد أصحابها أن "سلام إبراهيم" وُلد ميتاً، أو أنه يتعثّر، ولا يندر مديح الفلسطينيين لأنهم تمكنوا من إحباطه. تنجم هذه الحسابات الخاطئة عن إسقاط الأمنيات على الواقع، وغالباً عن الفشل في فهم معنى ومبنى "إبراهيم وسلامه". لذا، ثمة، هنا، ما يستدعي التوضيح.
تُعرّف الأديان التوحيدية، عموماً، بالإبراهيمية بحكم انتسابها إلى جد أكبر ومشترك. ولا يعنينا مدى دقة هذا الأمر بالمعنى التاريخي. ما يعنينا، الآن، يتمثل في ثلاثة مداخل تحليلية: لم يسبق للجد المشترك أن كان مكوّناً عضوياً، وفكرة مركزية، في علاقات السياسة الدولية (كأن يقول الأميركيون للروس: انظروا، نحن ننتمي إلى جد مشترك). ولم يسبق للجد المشترك أن كان مكوّناً عضوياً، وفكرة مركزية، في السرديات ذات الصلة بالصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي (فالصراع، هنا، ليس بين أبناء العمومة بل بين الكولونيالية وحركة التحرر القومي في المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية).
ولم يسبق للجد المشترك أن كان مكوّناً عضوياً وفكرة مركزية في سياسات الحواضر العربية، سواء ما اتصل منها بنشأة الحواضر المعنية وتاريخها، أو بالصراع مع الدولة الإسرائيلية (قيل، ويقال، كلام من وقت إلى آخر عن أبناء العمومة، ولكنه كان هامشياً، ولم تكن له مكانة تُذكر في تاريخ الوطنية الفلسطينية).
وعلى النقيض من هذا كله، سعت مناطق الهامش والأطراف إلى اضفاء، مسوّغات ومرافعات دينية، سواء على تاريخها، أو على بنيتها الاجتماعية، ونظامها السياسي، على الرغم من حقيقة أن وجودها، ودوافعها، وحساباتها، كانت دائماً دنيوية تماماً. ولنلاحظ، هنا، أن هذه المناطق بالذات، متضامنة ومتحالفة مع الأميركيين، ووكلاء محليين كالسادات والإخوان، هي التي ألهمت وموّلت مشروع الأسلمة، الذي اجتاح الحواضر منذ أواسط السبعينيات، ونجح هو والدكتاتورية في تدميرها.
وفي السياق نفسه، لم تكن فكرة الجد المشترك مركزية في أيديولوجيا وسياسات الحركة الصهيونية، والدولة الإسرائيلية في وقت لاحق. وقد جرى تداول تعبيرات من نوع "رياح الشرق" و"العودة إلى الشرق"، في مراحل مختلفة من تاريخ الحركة والمشروع الصهيونيين، ولكن دلالة انتماء اليهود إلى العرق السامي الوهمي (قبل بطلان خرافة العرق، والنظريات العرقية بعد الحرب العالمية الثانية) كان المراد منها تكريس غربة اليهود عن محيطهم الأوروبي من ناحية، وتحريضهم على الهجرة إلى فلسطين من ناحية ثانية، وكانت في الحالتين "لا سامية" مقلوبة.
المهم، إذا كان فيما تقدّم ما يُفسّر كيف ولماذا صارت للجد المشترك مكانة مركزية، بل وحتى اتفاقات سلام تتمسح باسمه، وتُعرّف به، إلا أن المقصود أبعد من هذا بكثير. فالمقصود أن تعبيرات جديدة من نوع الإبراهيمية، والإبراهيميين، قد وُلدت الآن، وصارت قيد التداول، وأن لها دلالات سياسية وتاريخية، وبطانة أيديولوجية، ويمكن استخدامها بالاختصار، والإيجاز، والمجاز، دون الاخلال بالمعنى.
 والمهم، أيضاً، أن في الدلالات السياسية والتاريخية، كما في البطانة الأيديولوجية، ما يبرهن على أن الكلام عن "السلام" الذي يتعثر، أو وُلد ميتاً، يبدو متسرعاً أكثر مما يجب، ففي هذه الحالة، كما في كل حالة مشابهة، في ولادة تعبيرات جديدة ما يدل على تحوّلات تاريخية، على الأرض، ومن عيار ثقيل.
الصحيح ان ما يحدث لا يقل عن إعادة ترتيب المفردات في عبارة من نوع "الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي"، وقد كان فيها حتى وقت قريب ما يتاخم حد البداهة، وكانت تقليدية تماماً. إعادة الترتيب تعني فض الصلة المادية والرمزية والأخلاقية والسياسية (والقومية) بين الفلسطيني والعربي في كفّة الصراع، بطريقة لا "تُخرج" العربي من المعادلة وحسب، بل وتجعل من سلامه مع إسرائيل جزءاً من حقوقه السيادية أيضاً.
 والأسوأ من هذا كله التلويح بعقاب الفلسطيني إذا غامر بالتعقيب، سلباً، على سلام كهذا بوصفه تدخلاً في شؤون الغير السيادية، مع ملاحظة أن "السلام" المذكور لا يقتصر في الظاهر، كما الباطن، على التدخل في شؤون الفلسطيني الداخلية، بل ويتعداها إلى شؤونه المصيرية والوجودية، في آن.
على أي حال، هذا موضوع يطول شرحه، ويستدعي الكثير من الاستطراد والتمثيل. وما يعنينا، الآن، يتمثل في التذكير بما يغيب، في الغالب، عن المتن في كل كلام محتمل عن "إبراهيم وسلامه" أعني التجليات الثقافية لهذا كله، طالما افترضنا أن مفردات "الإبراهيمية" و"الإبراهيميين" لا تقتصر على، ولا تنحصر في، السياسة، بل هي مقولات ثقافية، أيضاً، أي ثمة ما يوازيها فيما يُتداول في السوق الثقافي من عملة رمزية، ومن دولارات مادية فعلاً في سوق موازية.
ولعل الأقرب إلى الذهن، في هذا الشأن، ازدواجية اللغة والمعايير في عالم "الأخ الأكبر"، كما صوّره، وتصوَّره، جورج أورويل في "1984". والمدهش، فعلاً، أن الرواية التي أُريد لها أن تكون صورة كابوسية لأنظمة الحكم الشمولي الأوروبية في أواسط القرن الماضي، وصارت من أسلحة الحرب الباردة بالمعنى الأيديولوجي، تصلح الآن لتوليد أخيلة ودلالات وثيقة الصلة بكيانات دولانية، في مكان آخر من العالم في العقد الثاني من قرن وألفية جديدين.
السمة الأهم هي تطبيع انفصال اللغة عن الواقع، وتحويل ميوعة المعنى والازدواجية إلى أشياء لا ينبغي أن تثير الانتباه، أو حتى الدهشة. وفي سياق كهذا بدلاً من أدونيس واحد ستجد نصف دستة، من أبناء الحواضر المنكوبة، في الطابور وعلى قائمة الانتظار.