رام الله - صدى نيوز- قبل أيامٍ من إعلان أحمد شفيق عن ترشحّه قصير العُمر للانتخابات الرئاسية، انعقد اجتماعٌ في القاهرة من أجل اختيار من سيرأس حملةً جادة لإطاحة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

حضر الاجتماع عددٌ من جنرالات الجيش السابقين رفيعي المستوى، ورموز المجتمع المدني، وكان من ضمن الحضور سامي عنان، رئيس الأركان السابق. حضر أيضاً مجدي حتاتة، أحد من سبقوا عنان في منصب رئيس الأركان، وأسامة عسكر قائد الجيش الميداني الثالث سابقاً، وفقاً لمصادر تواصلت مع موقع ميدل إيست آي البريطاني.

تحدث مَن حضروا الاجتماع في بدايته عن دعم مرشحٍ مدني، لكنَّهم لم يتفقوا على واحد، ثم اتفقوا بعدها على دعم شفيق، بقي عنان صامتاً، وحين تحطمت آمال شفيق في الترشح (هدد النظام شفيق وابنته بتهم فساد)، حوَّل الحضور دعمهم إلى عنان.

سُرعان ما حشد عنان طيفاً واسعاً من الداعمين، شملوا العُصبة السياسية والتجارية التي أحاطت بالرئيس حسني مبارك سابقاً وابنه جمال، إضافةً إلى رموز معارِضة مصرية.

اضطربت أعصاب السيسي أيضاً بفعل سلسلةٍ مستمرة من المحادثات المسربة، التي أرجع تسريبها إلى مُعارضيه داخل المخابرات العامة المصرية، الجهاز المُنافس للمخابرات العسكرية والمؤسسة الوحيدة القوية بما يكفي للتنصت على الهواتف الجوالة الخاصة برجال الرئيس المقربين.

افترض معسكر السيسي افتراضاً صائباً أنَّ الساخطين داخل المخابرات العامة الذين بذلوا أقصى جهودهم لإضعاف السيسي سيدعمون ترشّح عنان.

عزيمة متهورة

بدأ عنان حملته يوم الأحد بكامل عتاده وأسلحته، واستهدف بصواريخه رئاسة السيسي. لم تقتصر رسائله على ما قاله، بل مَن جمعهم حوله.

أحد أكبر مستشاريه هو هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات سابقاً، الذي زعم في 2016 أنَّ الفساد كلف الدولة المصرية 76 مليار دولار، وهو مبلغٌ يقترب من حجم المساعدات التي تلقاها السيسي من ثلاث دول خليجية منذ انقلابه على الرئيس محمد مرسي في 2013.

والمتحدث الرسمي باسم عنان كان حازم حسني، أستاذ العلوم السياسية المتخصص في "التمكين السياسي والاقتصادي".

لكن ما قاله عنان كان تحدياً سافراً بما فيه الكفاية، إذ قال: إنَّ أكبر ملفين فشلت فيهما مصر هما المياه والأرض: المياه إشارة إلى النزاع المتصاعد مع إثيوبيا والسودان على سد النهضة الإثيوبي بالقرب من أسوسا، الذي يُهدد بخفض منسوب مياه النيل، والأرض إشارة إلى القرار الذي أثار جدلاً واسعاً بمنح المملكة العربية السعودية جزيرتَي تيران وصنافير الواقعتين في البحر الأحمر.

دعا عنان إلى الانفتاح السياسي، ما يُمكن ترجمته إلى إطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين زجّ بهم السيسي في سجونه.

وكرَّر عنان حديث شفيق عن دور القوات المسلحة الحيوي في مصر، مع وجوب تراجعها عن المكانة التي تحتلها الآن في السياسة والاقتصاد.

وطُلِبَ من حازم حسني، المتحدث باسم عنان، مراراً وتكراراً، أن يُنكر مزاعم ترشح عنان بدعمٍ من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة. ولم يُنكِر حسنى تلك المزاعم عن قصد. كان رده: "الأصوات اللي بتتحط في الصندوق مش مكتوب عليها إخوان أو غير إخوان. الصوت اللي بيتحط في الصندوق لمواطن مصري له حق الانتخاب... أي مصري أياً كانت انتماءاته يريد أن يدلي بصوته فليدلِ بصوته".

وكرر حسني المزاعم بأنَّ كثيراً من الظلم وقع على المعتقلين في مصر.

دخل عنان الصراع بعينين مفتوحتين، وتنبّأ حسني بمعركة "كسر عظام"، ولنا أن نتخيل أنَّه لم يضع في حساباته أنَّ سحق هيكل حملة عنان نفسها سيحدث بهذه السرعة.

صرَّح السيسي بعدها بتوترٍ واضح بأنَّه لن يسمح للفاسدين بالاقتراب من كرسي الرئاسة. ويوم الثلاثاء 23 يناير/كانون الثاني ألقت القيادة العليا للقوات المسلحة القبض على عنان بتهمة "التحريض".

زعم متحدثٌ رسمي باسم الجيش أنَّ عنان زوَّر مستنداتٍ رسمية تُفيد بانتهاء خدمته العسكرية، وأنَّه سيُحاكم أمام محكمةٍ عسكرية لارتكابه "مخالفاتٍ قانونية صريحة جسيمة مثلت إخلالاً جسيماً بقواعد ولوائح الخدمة (العسكرية)".

وقال محمود رفعت، المحامي، والمتحدث الرسمي باسم حملة عنان الرئاسية لموقع ميدل إيست آي: إنَّه يعتقد أنَّ حياة عنان في خطر.

انقسام الجيش

استمرت حملة عنان ثلاثة أيام. لكن أياً كان ما يحدث من الآن فصاعداً، والمُراهنة على أن السيسي سيستخدم أي قوةٍ يحتاجها في سحق المُعارضة والفوز بالرئاسة لفترةٍ ثانية، فإنَّ أدوار شفيق وعنان الشرفية في هذا المشهد الدرامي قد تحمل آثاراً ممتدة.

جلب عنان وشفيق الانقسام داخل الجيش المصري من الكواليس إلى خشبة المسرح، ومن الظلال إلى وضح النهار.

الجيش المصري، الدولة داخل الدولة، هذا الأخطبوط العملاق الذي تمتد أذرعه في كل مساحةٍ من الحياة الاقتصادية والسياسية في مصر، منقسمٌ على نفسه انقساماً واضحاً للعيان. انتهت توازنات القوى التي دعمت الانقلاب العسكري في 2013 وترشُّح السيسي للرئاسة بعدها بعام.

الآن لم يعد هناك سوى السيسي، بسُلطات المخابرات العسكرية المطلقة، وقوائم ضحاياه التي تطول أكثر فأكثر، وتشمل الآن جنرالات أقوياء سابقين بالجيش المصري. والمُعارضة الأصلية من إسلاميين وعلمانيين في ميدان التحرير كانت هامشية مُقارنةً بالقوة التي امتلكها الجنرالان اللذان أطاح بهما السيسي.

ينبغي على السيسي أن يقرأ تاريخ العائلات الخامسة -عصابات المافيا التي أدارت نيويورك- ليفهم أنَّ ما فعله للتو بالفصائل المُعارِضة داخل الجيش المصري ليس وصفةً لحياة طويلة آمنة، حتى بعد التقاعد.

أصول متواضعة

نعود إلى الوراء بضعة أعوام لنفهم.. حينها، كان السيسي ضابطاً مغموراً بالجيش، مُتعطشاً لإبهار رؤسائه. بعد انقلاب 2013 أجرى السيسي حواراً طويلاً مع الصحفي المصري ياسر رزق في حضور مدير مكتبه عباس كامل. سُجِّل الحوار وتسربت مقتطفاتٌ منه منذ ذلك الحين.

حكى السيسي في حواره قصة لقائه الأول مع الدون، أقوى رجلٍ في الجيش المصري، القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية ورئيس المجلس العسكري محمد حسين طنطاوي.

قال السيسي للصحفي: "حين عرَّفني عباس بطنطاوي، قال هذا ابني، وهو قطعةٌ مني. تلك الليلة كنا في المجلس الأعلى في قصر الاتحادية الرئاسي. المشير طنطاوي رجلٌ كتوم. أقصد: كتومٌ جداً. وحين وجدته يقول: تعالَ واركب معي السيارة، أحتاجك. كان هذا أمراً غير مسبوق. قلت له: أجل يا سيدي. وبينما كنا نسير سألته: إلى أين نذهب يا سيدي؟، فقال: إلى الاستراحة. وكان هذا غير مسبوقٍ أيضاً".

تكشف المقابلة دور عباس كامل في توجيه السيسي، إذ كان يُصحح إجاباته ويُوجه الصحفي إلى كيفية إدارة الحوار.

سُئِلَ السيسي عن مثله الأعلى: "مَن الشخصية التي أثرت عليك كقدوة عسكرية في العالم أو في مصر؟". تردد السيسي، لكنَّ عباس رد بالنيابة عنه: "هتلر".

هل كان السيسي يُجِلّ طنطاوي؟ وفقاً لمصطفى بكري المذيع التليفزيوني المُقرب من طنطاوي الذي ألف عدداً من الكتب عن الجيش وكتاباً عن السيسي، كان السيسي اختيار طنطاوي. يزعم بكري أنَّ طنطاوي اختار السيسي ابناً له.

غير أنَّ بكري غيّر نسخته من الأحداث عدة مرات لتناسب المزاج السائد.

في ذلك الوقت، وصف مساعدو الرئيس محمد مرسي مشهداً في القصر الرئاسي حين أُقيل طنطاوي، الذي كان وزير الدفاع حينها، بعد هجومٍ على القوات المصرية في سيناء. كان السيسي في غرفةٍ أخرى، وحين جاء دور تعيينه ارتجفت يداه.

عودة طنطاوي

تضع الطُّرفة الساخرة مرسي في موقع صانع الملوك، وطنطاوي في موقع الضحية المُهانة، غير أنَّنا نعرف الآن مدى خطأ هذه الرواية.

ومهما كان ما حدث، دعم طنطاوي ترشح السيسي للرئاسة في 2014، لدرجة أنَّه منع عنان من الترشح. ونعرف أيضاً أن علاقة طنطاوي والسيسي تراجعت بعدها بعامين.

ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وفي مفاجأةٍ للكثيرين، ظهر طنطاوي في ميدان التحرير، حيثُ وُلِدت الثورة المصرية في 2011، وأقام مؤتمراً صحفياً ارتجالياً مع عددٍ من داعميه. قال طنطاوي: إنَّ معتقلي الإخوان المسلمين لن يتم إعدامهم.

استبعد طنطاوي حينها ترشح عنان، وأشار في الوقت نفسه إلى أنَّه (طنطاوي) الأب الروحي للجيش والشعب، سيكون حاضراً لينقذ الأمة.

قال طنطاوي للمراسلين: "عنان في بيته، كبر خلاص". ثم أضاف "ما تخافوش.. ربنا مش هيسيبكم". وردّ حشد محبيه: "الشرطة والجيش والشعب إيد واحدة"، و"تحيا مصر"، و"يسقط الخونة".

لم يلق الأداء صدًى جيداً في القصر الرئاسي، وأعطى السيسي تعليماتٍ لشبكة مذيعي التلفاز التي يديرها كامل بالمضي قدماً في الهجوم.

كان هذا قبل عامين. كان السيسي قد أجرى ثلاث حركات انتقالات داخلية في الجيش حين كان وزير الدفاع. وأقال ناصر العاصي من رئاسة الجيش الثاني، وعسكر من رئاسة الجيش الثالث.

ووزير الدفاع الحالي صدقي صبحي ما زال في منصبه، بضمانٍ من دستورٍ وُضِع ليضمن أنَّ السيسي لن يُزاح من منصبه بينما كان يتولاه. وسيضطر السيسي إلى تغيير الدستور مرة أخرى ليتخلص من صبحي.

ولكن وفقاً لمصادر تحدثت إلى ميدل إيست آي، دعم طنطاوي "عنان" هذه المرة، بعد أن كان قد منعه من الترشح سابقاً.

والأسئلة بالغة الأهمية التي نسألها الآن هي: هل طهر السيسي الجيش من عدد كافٍ من الجنرالات ليستطيع الاعتماد على ولائه غير المشروط؟ البيان الذي أصدره الجيش إدانةً لعنان يُعطي هذا الانطباع ظاهرياً.

ماذا بقي من قاعدة نفوذ طنطاوي السابقة؟ أم أنَّه ما زال يقبع في الخلفية كوحشٍ جريحٍ يمثل خطورةً داهمة؟