إذا لم يتمّ تسميم الأجواء الوطنية عن سابق تخطيط وتصميم قبل الاجتماع المُزمَع عقده، على مستوى (الأُمناء العامين) في القاهرة في نهاية الشهر الجاري، فإنّ الفشل الذي عهدناه في مسار مُحاولات إنهاء الانقسام لن يتكرّر كما في الحوارات السابقة، ومصير التوافق الذي كان يبدو ممكناً في المرّات السابقة، سيكون ممكناً للمرّة الأولى منذ عدّة سنوات، وستكون حصيلة هذا اللقاء أعلى وأكبر وأهمّ وأعمق من كلّ المرات السابقة.
ولا يعود السبب الحقيقي لإمكانية نجاح الحوار في هذه المرّة ــ كما نتوقّع ــ لحالة نضجٍ وطني، أو لاستشعار جملة الأخطار والتهديدات المصيرية التي تحدق بالحالة الوطنية، والمشروع الوطني، ولا للشعور بالمسؤولية الوطنية المفترضة في مواجهة محاولات تصفية القضية الوطنية، والإجهاز على حقوق شعبنا وأهدافه الوطنية، وإنّما يعود السبب الحقيقي ــ كما أرى ــ إلى شعور أطراف معادلة الانقسام كلهم، ودون استثناء يُذكر، بأنّ الانقسام لم يعد هو «الواقع» الذي يحافظ على «بقاء» أطراف الانقسام، وأطراف الانقسام هي «الكلّ الفصائلي» مهما تفاوتت الأدوار والمساهمات، لأنّ كلّ الفصائل إمّا هي طرف «في» الاستقطاب، أو هي طرف «مِن» هذا الاستقطاب.
وبما أنّ اجتماع القاهرة هو اجتماع فصائلي، وبما أنّ الفصائل تعتبر نفسها هي النظام السياسي، على طريقة (أنا المُحقّ والمُحقّ أنا) للدلالة على خوف «الحلّاج» من الثنائية التي ستؤدّي إلى الشِّرْك! وبما أنّ النظام السياسي بات في وضعٍ من الاهتراء والتهتُّك الكبيرين، فإنّ النظام السياسي الفصائلي سينهار بكلّيته إذا لم يتمّ تدارك الواقع الذي وصل إليه هذا النظام.
لم يُبادر أيّ فصيلٍ حتى الآن للدعوة إلى حوارٍ وطني بمشاركة المجتمع المدني، أو النُّخب الفلسطينية في المجالات المختلفة باستثناء الدعوة التي وجّهتها جمعية فؤاد نصّار للتنمية المجتمعية والمنبر التقدمي الديمقراطي الفلسطيني المستقلّ لحوارٍ مُوسَّع حول قائمة طويلة من المسائل تحت عنوان (إلى أين نحن ذاهبون في ظلّ التراجع السياسي، والهرولة العربية، وتصاعد الفاشية الإسرائيلية، وتصاعد النزاعات الدولية؟).
أقصد أنّ الفصائل الفلسطينية في غالبيتها الساحقة ما زالت ترى نفسها هي الحكم والدولة في تعبيرٍ دلالي كبير عن مقولة (أنا الدولة والدولة أنا) الشهيرة لـ»لويس الرابع عشر» والتي هي كناية سياسية عن التحكُّم والسيطرة والاستبداد.
المجتمع في عقلية هذه الفصائل ليس هو المصدر الحقيقي للسلطات، وغالبية الفصائل، إن لم يكن كلّها لا تقيم وزناً حقيقياً للناس ودورهم، لأنها لم تعد تعلّق آمالاً حقيقية على رأي الناس، وقناعات الناس بهذه الفصائل، وحتى الذين إمّا لمرّة واحدة، أو لمرّتين أو ثلاث مرّات اعتمدوا على دعم الناس، ومواقف الناس، لم يعودوا يعتمدون على هذا الدعم ولا على هذه المواقف في «بقاء» سلطتهم، ولم يعودوا يهتمُّون بالناس من هذه الزاوية بالذات، وهم يرون في «بقاء» الانقسام حتّى عدّة شهور فقط هو ضمانتهم للبقاء، وهو مراهنتهم الأهمّ لاستمرار التحكُّم.
الذي أراه هو أنّ نظام الفصائل والذي تراه الفصائل هو النظام السياسي، وكانت ترى في الانقسام «آليةً» للبقاء، وللحفاظ على الذات، ولاستمرار العيش والاعتياش لم تعد واثقة كما كانت واثقة من قبل، وهذا ــ برأيي ــ هو المستجدّ الأكبر والأهمّ الذي يمكن أن يؤدّي إلى «نجاح» «لقاء القاهرة»، وإلى «التوافق» على حلحلة بعض قضايا الانقسام، وصولاً إلى أشكال جديدة و»مبتكرة»، أيضاً، لتحويل الانقسام إلى شكلٍ من أشكال «وحدة التعايش».
إذا أمعنّا النظر في الأسباب الدقيقة التي تجعل من «وحدة» التعايش إمكانية واقعية فهي ربما تكون الآتية:
إسرائيلياً: من الواضح أنّ الأزمة «الداخلية» الإسرائيلية تزداد تفاقماً مع ضغوط الفاشية لحسم معركة «الإصلاح القضائي» تمهيداً «لحسم» الصراع مع الشعب الفلسطيني، وهو ما سيدفع بقوى كبيرة وكثيرة ومؤثّرة داخل إسرائيل «للتضحية» بالانقسام، والذي بقي إستراتيجية ثابتة على مدار مرحلة الانقسام كلّها، والعمل لإرغام السلطة الوطنية الفلسطينية إمّا: على الخضوع الكامل أو إضعافها إلى أبعد الحدود على طريق إزاحتها من كامل المشهد في أوّل فرصة «سياسية» مُواتية، وكذلك إرغام «حكومة الأمر الواقع» في القطاع على تسيير «التسهيلات» الإسرائيلية للإبقاء عليها تحت طائلة التدمير الكامل للبنية العسكرية فيها، والقضاء على حكم حركة حماس هناك.
باختصار، فإنّ كلا السلطتين، حتى وإن بتفاوت في الاعتبارات والأساليب الإسرائيلية أصبحتا على جدول أعمال «الشطب»، أو الخُنوع والخُضوع التام، وأمّا من يعتقد أنّ هذا الأمر ينطبق على السلطة الوطنية فقط فإنّه واهم وغارق في أحلام «سياسية» ليس إلّا.
لم تعد مسألة «الانقسام» سوى مرحلةٍ وانتهت، أو ستنتهي إذا لزم أمر التضحية بها، وأغلب الظنّ أنّ القوى الفاشية ستحاول حرق الإقليم كلّه قبل أن تحترق إسرائيل، ومسألة التضحية بالانقسام هي مسألة أصغر بكثير في حسابات القوى الفاشية من حسابات الفصائل الحاكمة في القطاع، وأوهامها وطموحاتها الخاصة.
وفلسطينياً: فإنّ كل الفصائل، ومنذ «هَبّة الشيخ جرّاح»، ومروراً بكلّ الهَبّات والعمليات التي تلتها، ووصولاً إلى «غزوة جنين» الأخيرة باتت على قناعة بأنّ «البساط» سيُسحب من تحت أرجل الفصائل، كلّ الفصائل، وأن نموذج مخيّم جنين قادم في نابلس، وفي طولكرم وفي مدنٍ أخرى، وبلدات كثيرة، وليس أمام الفصائل إمّا الالتحاق بالحالة الوطنية التي تتولّد تباعاً أو أنّها ــ أي الفصائل ــ ستفقد زمام الأُمور.
بدأت المسألة بالأعمال الفردية، ثمّ تحوّلت إلى أعمالٍ جماعية صغيرة، ثمّ تحوّلت إلى كتائب منظّمة في الأحياء، وفي المدينة، ثمّ أصبحت تتحوّل إلى نموذج مُتكامل يتمّ الاقتداء به، ويتمّ المُراهنة عليه، ويَلقى دعماً شعبياً واسعاً وغير مسبوق.
هذه الصيرورة هي فعل كفاحي تراكمي يسحب من رصيد الفصائل، وما المزاحمة على إظهار تواجد الفصائل في هذا الواقع الجديد إلّا الانعكاس المباشر لمخاوف الفصائل من فقد السيطرة.
وإقليمياً، وكذلك دولياً: هناك اعتقاد لدى كلّ الفصائل، من كلّ أنواع الفصائل أنّ الإقليم بات يخشى الانفجار الشامل، وأنّ «المجانين» في إسرائيل أصبحوا يُثيرون مخاوف «الغرب» والإدارة الأميركية نفسها، وأنّ أميركا التي تدرك أكثر من غيرها أنّ حلّ المسألة الفلسطينية هو مفتاح المحافظة على إسرائيل، إذ وصل الأمر بواحدٍ مثل مارتن إنديك إلى أن يشير إلى هذا الأمر وبواحدٍ مثل توماس فريدمان بالمطالبة العلنية بإعادة مراجعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية بصورةٍ جادّة وجديدة من على خلفية «حلّ الصراع في الشرق الأوسط».. الفصائل باتت تُدرك أنّ شيئاً «ما» سيُطبخ للإقليم، إن لم يكن لضمان عدم انفجار الإقليم في ظلّ احتدام الصراع مع روسيا والصين، فمن أجل ضمان عدم احتراق إسرائيل من الداخل على الأقل، وهي ــ أي الفصائل الفلسطينية ــ أمام كلّ هذه المخاطر ربّما وللمرّة الأولى منذ الانقسام وحتى يومنا هذا أصبحت أمام مُفترق لا يُعطيها المزيد من الفرص، ولا المزيد من الوقت للمناورة في دائرة الانقسام.
إذا لم يتمّ تسميم الأجواء قبل «اجتماع القاهرة»، لأنّ هناك من أصحاب المصالح، والمضروب على عُيونهم وقلوبهم ممّن لا يخشون على مصالحهم وامتيازاتهم أكثر من الوحدة، بل لا يخشون على أنفسهم أكثر من صيغة «وحدة التعايش» على تواضع مضمونها.. إذا لم يتمّ تسميم الأجواء من الآن وحتى موعد الاجتماع فإنّ الفشل ليس حتمياً هذه المرّة، مع أنّه سيكون نجاحاً بطعم الفشل على كلّ حال.