لو كانت فتح حزبا عقائديا حديديا، لذابت وانقرضت كما انقرض كثير من الأحزاب.
ولو كانت فصيلا واحدا موحدا، لما برزت ظاهرة انتشارها في كل الميادين والساحات، وحتى الاتجاهات، متفقة ومختلفة.
ولو كانت موحدة خلف خيار الكفاح المسلح حتى التحرير، لما ذهب ياسر عرفات وخليفته محمود عباس إلى الخيار الموازي، وهو المفاوضات. وأقول "الموازي" لأنه التعبير المخفف عن "البديل" حتى لو كان مؤقتا.
هي هكذا منذ نشأتها وعبر كل مراحل نموها وقيادتها للمرحلة الفلسطينية منذ الطلقة الأولى، إلى يومنا هذا، كانت الضمانة الأكيدة للوحدة الوطنية من خلال تحويلها "منظمة التحرير" إلى إطار جبهوي مقاتل تعايشت أو تنافرت في داخله كل القوى الفلسطينية على اختلاف برامجها وحتى ارتباطاتها وما من معركة كان خوضها حتميا إما دفاعا عن الثورة أو فُرضت عليها، إلا وكانت "بعضا من كل" مع أنها الأكبر والأعظم إمكانيات والأوسع انتشارا بين الفلسطينيين والعرب والعالم، ما جعل الرئيس عبد الناصر يعلن أن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى وحذا حذوه العديد من زعماء العرب والعالم.
وفي مراقبة موضوعية لمسار التاريخ، ونمو وضمور الكيانات السياسية فإن واقع الحال يظهر اختلافا جوهريا بين ما كان وما هو كائن الآن بين فتح في زمن الثورة وفتح في زمن السلطة.
قاد ياسر عرفات التجربة المحفوفة بالخطر، وهو يدرك صعوبة المزاوجة بين الخيار العسكري والتحرك السياسي، كانت المزاوجة مكفولة بواقع موضوعي وفره الثقل العسكري الذي كان هو قائده المركزي، والانتشار السياسي الذي كان قائده كذلك، وفي تلك المرحلة برزت ظاهرة ما أن تغلق ساحة حتى يفتح غيرها، وما أن يتعثر خيار حتى يوجد بديل عنه، وحين تمت تصفية الوجود العسكري القوي للثورة في لبنان – مثلا – أمكن تعويضه بانفتاح أبواب هامة للسياسة.
ورغم كل العثرات والانشقاقات والطرد من الساحات لم يجد العالم بدا من طرق باب منظمة التحرير، وقائدتها فتح وقائدها ياسر عرفات من أجل إنجاح المحاولة الدولية الكبرى لحل قضية الشرق الأوسط مع إقرار شامل بأن القضية الفلسطينية هي مركزها وعامل التأثير الأقوى في مساراتها ومآلاتها.
استُبعدَ ياسر عرفات عن مؤتمر مدريد، والمفارقة أن الذين استبعدوا نزولا عند رغبة إسرائيل وهم الأمريكيون عرابو العملية.. كانوا مدركين لحقيقية أن المُستبعَد هو أقوى الحاضرين تأثيرا في المسار فإن سمح به مضى في برنامجه المحدود وإن إعتُرض عليه فلن يبدأ، وهذه المفارقة وعنوانها "الغائب أقوى من الحاضرين"، انتجت مسارا آخر هو مسار أوسلو الذي قاد فصوله السرية بالجملة والتفصيل عرفات وعباس.
ونظراً للمكانة المركزية والتاريخية لعرفات في القتال والسياسة معا، فقد رأى العالم المؤسس لمشروع "السلام التاريخي" أن لا أحد يقوى على إدارة أموره غير عرفات، ولا مجال لنجاح التجربة الصعبة إلا إذا كان هو منفذها على أرضها.
عاد عرفات إلى أرض الوطن ومنذ الأيام الأولى اكتشف هشاشة الاتفاق على الورق أمام صلابة معيقات التنفيذ، وأول المعيقات الذي لم ينتبه إليه في البدايات هو الأجندات الإسرائيلية التي بُنيت على "العلاقة السلمية" المستجدة مع الفلسطينيين، والتي اتحدت عليها السلطة والمعارضة في إسرائيل، وأهمها أن العلاقة مع الفلسطينيين ستبنى وتتقدم وتتراجع على أساس أمني مغلف بغشاء سياسي رقيق، والفرق بين من هم على مائدة صنع القرار وبين من هم في المعارضة مجرد صوت واحد، ولكي لا يبدو كما لو أن لا اختلافات في هذا الشأن بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل، أي بين الليكود والعمل، فقد كان الليكود أكثر وضوحا في التعبير عن فهمه للعلاقة المستجدة مع الفلسطينيين وهي أمنية دون أي غلاف ثم اقتصادية لمجرد إبعاد السياسي.
كانت منظمة التحرير وفتح يبدوان في أقوى حالاتهما حيثما وجد ياسر عرفات ومؤسسته القيادية "فتح والمنظمة" ولكن حين عاد إلى الوطن لينهمك في تحديات وصعوبات تنفيذ ما اتفق عليه في أوسلو.
بدت المنظمة عارية عن أهم مقوماتها وصارت السلطة على بعض الوطن، هي المكان الموضوعي للحالة الفلسطينية بإجمالها.
بديهي أن تتضرر منظمة التحرير من اندماجها بالسلطة ويتضرر الفلسطينيون المنتشرون في كل مكان داخل الوطن وخارجه من المضاعفات الناجمة عن هذا الاندماج.
لو كانت الأمور التي تمت صياغتها على الورق وجدت سبيلها لأن تطبق على الوقع لكان متاحا تنسيق علاقات تكاملية بين السلطة والمنظمة، ولكن أما وأنها تعثرت منذ البدايات فقد أصبح حال المنظمة مرتبطا بحال السلطة، ولم يعد ممكنا الإفادة من المنظمة كإطار فعال إذا ما فشلت تجربة أوسلو على أرضها.
المنظمة هي في الواقع.. فتح أولا، وما حدث يوفر لفتح هامشا فعالا للاستقلال عن السلطة، ما دامت تحتل رئاستها وكل الرئاسات المنبثقة عنها، وما دامت البنية التحتية الوظيفية والسياسية هي فتحاوية في الأساس.
تظهر أصوات بين وقت وآخر تحاول إظهار أن فتح مختلفة عن السلطة، وأن خيارات السلطة لا تلزم فتح، غير أن ذلك يبدو بعيدا عن الواقع، وفي تقديري أن هنالك مخرجا ممكنا وإن كان صعبا من هذا المأزق الشامل، الذي تتشارك فيه فتح والمنظمة والسلطة والشعب، وكل الفصائل. يبدأ بفتح أولا وفق مبدأ إن صلحت فتح صلح حال الوطن، وعليها أن تلم شمل أبنائها الذين تفرقوا كثيرا وذهبوا بعيدا، وذلك يتوازى مع ترميم علاقاتها بالشعب الفلسطيني بعد أن انفض الكثير منه عنها، وأن تقدم نفسها بصدق كراعية للوحدة الوطنية والحياة الديموقراطية وأن لا تخاف من الانتخابات بل تعمل منذ اللحظة على أن تكسبها عبر صناديق الاقتراع، هكذا ينبغي أن تكون البداية دون إبطاء، ولقد أعفاني من تفاصيل كثيرة مقال للدكتور إبراهيم أبراش نشره مؤخرا وتناقلته بشغف واهتمام وعلى نطاق واسع جميع منصات التواصل بما في ذلك منصات فتح.