لم تنتهي معركة جنين بما تمثله كجزء من الوطن وكفاح شعبنا والتي وصفها الأخ الرئيس بايقونة المقاومة خلال وجوده قبل أيام فيها وبين أهلها ، الزيارة التي احتاجها شعبنا كما يحتاجها في كل موقع اخر ، اتت لتؤكد على ضرورات تكامل الأدوار الكفاحية الرسمية والشعبية الجماهيرية وعلى الشراكة المفترضة والواجبة بين كل قطاعات شعبنا في مواجهة الاحتلال وبضرورة الدفاع عن شعبنا وحقوقه على الأرض وبالمحافل الدولية السياسية على السواء . فبغض النظر عن حجم الدمار الذي لحق بالمدينة ومخيمها وعن أولئك الذين التحقوا على اثر المجزرة بل والمحرقة المستمرة بركب مسيرة الفخر والشهادة بالدفاع عن أرض الوطن وكرامة شعبنا بامكانيات متواضعة من مقومات المقاومة الشعبية الباسلة سوى من حجم ارادة وإصرار ربما كنا قد قرأنا عنها في قصص وتجارب حركات المقاومة الوطنية التي شكلت لنا نماذج مضيئة من روح الانتصار على أعداء الشعوب وحرياتها في مناطق مختلفة من هذا الكون .
لذلك لم تكن جنين حدثا عابرا بشهدائها وجرحاها وبيوتها ، ولم تكن استثنائية من جهة اخرى وفق ما كانت عليه غيرها من المدن والمخيمات التي شكلت نموذجا للدفاع عن الكرامة ولوحدة الارادة لشعب ما زال يرزح تحت حراب الاحتلال ، لشعب من حقه أن يقاوم الغزاة كما شعوب تلك الدول التي نالت استقلالها الوطني ، بالوقت التي تمنع حكومات تلك الشعوب وتحديدا الاوروبية منها عنا حق المقاومة وتطلب منا حماية أمن الأحتلال تحت ذريعة الدفاع عن النفس ، في مفارقات لا تمثل ازدواجية معايير بل مواقف تابتة كاصل لمفهوم الاستعمار الذي مارسته تلك الدول وفي معاداة حقوق الشعوب وحرياتها ، فمنذ متى هنالك دولة تدافع عن احتلالها واضطهادها لشعب أخر هو شعبنا الفلسطيني الاصلاني صاحب الأرض والجذور .
وبغض النظر عن اختلاف الظروف والمعطيات ، الا ان تلك التجربة الثورية التي لخصت الصراع بأيام معدودة ، فان الاحتلال لم يستطع حسم المعركة فيها أو إطفاء شعلة المقاومة التي اصبحت تتقد فيها وفي كل مكان من مدن وقرى ومخيمات الوطن رفضا لهذا الاحتلال الاستعماري ونظام فصله العنصري الذي اكتوى به شعبنا منذ اكثر من سبعة عقود وحتى اليوم على مرأى ومسمع من العالم المسمى جزافا بالحر .
ربما أن اختلاف الظروف الموضوعية والذاتية التي مرت بها حركات التحرر الوطني لشعوب اخرى لم تستدعي هذه العقود الطويلة من الزمن لإنجاز مهامها . بل ولربما لم تشهد ظروف كفاح شعوب اخرى تعقيدات وتداخلات مختلفة مثل تلك التي رافقت وما زالت قضيتنا الوطنية ، بل ولم نرى عبر التاريخ الماضي القصير ظروف استعمار احلالي استيطاني يَدعي بملكية الارض على حساب وجود ومقدرات شعب اخر هو صاحب الأرض الاصلاني ، وتساعده قوى الاستعمار في حل ما رافق مسألة وجود مجموعة تتبع ديانة محددة في مجتمعات لا تسودها ديانتهم ، من خلال تقديم حل المسألة اليهودية بالمجتمعات الأوروبية والعربية على السواء على حساب شعبنا الفلسطيني وفق الوعد التوراتي المزعوم وباعتبار فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ، فكان ذلك شكلا من الاستغلال السياسي الاستعماري للمسألة الدينية خدمة لمصالح الفكر السياسي المرتبط بدول الاستعمار منذ مئة عام وما قبل وفق مخططات المسيحية الصهيونية وما ارتبط بها من حركات سياسية ومالية ما زالت فاعلة حتى اليوم تَدعي الديانة كهوية قومية مُضطهدة بين باقي البشر ، لا تقبل بحل المسألة اليهودية كمعتقد ديني أسوة بديانات اخرى في مجتمعاتها الاصلية .
واليوم وبعد تلك العقود من الزمن فان العالم جميعه لم يبقى كما كان بالأمس ، وهو اليوم يدخل مرحلة جديدة من المتغيرات على امل ان يصل الى تعددية القطبية لانهاء الهيمنة الامريكية التي ساهمت في استعباد الشعوب . ان موأمة المتغيرات هي امر حيوي ونهج مطلوب لحماية الشعب والقضية، فالجمود لا يخدم التطور ، حيث الازمة والتراجع يعم كل الحركة الوطنية الفلسطينية لاعتبارات مختلفة يدرك اسبابها كل الوطنيين ، والمجال لا يتسع لاستعراضها في هذه العجالة من المقال .
ان المخططات التي لم تنتهي بعد لضرب فكر وجوهر الحركة الوطنية الفلسطينية المتمثل بدحر الاحتلال ، وهي المسألة الأساس ، قد بدأ التخطيط لها منذ ٥٦ عاما من عمر الاحتلال بعد جريمة النكبة والتطهير العرقي ، فترة قدم خلالها وما قبلها شعبنا تضحيات كبيرة ، الأمر الذي انعكس على المجتمع العام وترك اثاره على واقع حياتنا حتى اليوم ، إضافة إلى تعقيدات المشهد السياسي العربي والدولي وما رافق ذلك من محاولات حصار وتحجيم منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد لشعبنا في كافة أماكن تواجده ، بل ولمحاولات مستمرة لإيجاد دمى البدائل منذ روابط القرى مرورا بأشكال مختلفة وادوات متعددة حتى اليوم . كل ذلك رافقه استمرار ممنهج لتنفيذ حلم الحركة الصهيونية العالمية "بارض إسرائيل الكبرى " ، بمقابل ما كنا نعتقد به من إمكانية الوصول للسلام وتنفيذ الحل الأممي وفق مبداء حل الدولتين ، الذي رافقته المراوغة تحت ذريعة إدارة الأزمة وتحسين شروط الحياة والحلول الاقتصادية والامنية التي أدارت حيثياتها الولايات المتحدة بتبعية أوروبية عمياء رغم بعض المواقف اللفظية بحق سياسات وجرائم الاحتلال دون عقوبات ومحاسبة الأمر الذي ساهم باستدامة الاحتلال وفرض وقائع الاستيطان الكولنيالي على الارض بالضم والبناء المستمر لانهاء إمكانية إقامة الدولة ذات السيادة والمتواصلة جغرافيا على كافة الأراضي التي احتلت عام ٦٧ بما فيها القدس والاغوار وغزة ، بل وساهمت في ما يحقق الآن دولة المستوطنين اليهود على معظم أراضي الضفة الغربية وإبقاء التجمعات السكانية الفلسطينية في كانتونات محاصرة ومنعزلة .
من جهة اخرى فقد ساهم انقلاب حركة حماس في قطاع غزة وما رافق ذلك بعدها من فرض حكومة الأمر الواقع في تدمير جانب اخر لمشروع وحدة الدولة الجغرافية والسياسية والادارية ولوحدة مصير شعبنا.
الأمر الذي للأسف ينسجم مع محاولات القوى الظلامية او تيارات من حركة الاخوان المسلمين العالمية باستحداث تلك الدمى من البدائل المشبوهة بالتعاون مع قوى محلية ودولية لا تريد الخير لشعبنا وإنما لخدمة معتقدات واجندات ليس لها مكان في تراث وتاريخ حركتنا الوطنية أو في ما عبرت عنه وثيقة أعلان الاستقلال . منهج يتمثل باقامة الأمارة أو بالنظر إلى قندهار بأهمية أكبر من بيت لحم . سابقا بدائل مماثلة اسقطها شعبنا بوعيه ووحدته في مراحل سابقة ، لكنها اليوم تتشعب وتحظى بدعم مالي لتمرير تلك المؤامرة السياسية بترتيبات أمريكية إسرائيلية وبتعاون لاعبين اقليمين آخرين يستهدفون مصير شعبنا في حريته خدمة لرؤى اسيادهم .
وبعد أيام وعلى اثر دعوة الأخ الرئيس سيلتقي الامناء العامون للفصائل بالقاهرة في وقت تشتد به مخاطر مشروع الصهيونية الدينية في حسم الصراع على الأرض من خلال جرائم تطهير عرقي جديد وإطباق السيطرة اليهودية على المناطق المصنفة ج ، وهي ليست أقل خطرا بحكم الوقائع من كل تلك السياسات التي انتهجتها حكومات دولة الاستعمار الإسرائيلي بحق شعبنا منذ نشاتها كنظام مارق فوق القانون الدولي وادت إلى ما وصلنا له .
واليوم أمام منهج الصلف إلاسرائيلي وتصاعد جرائم الاحتلال وبشاعة الفكر الصهيوني العنصري والفوقية اليهودية وانحدار حالة المجتمع الإسرائيلي اكثر إلى العنصرية والفاشية الدينية ورفض الكل الصهيوني اليهودي لفكرة السلام اصلاً سوى قلة منهم غير صهيونية واغلبها بالشتات ، وسعيهم إلى تنفيذ المشروع الصهيوني كاملا على كل أرضنا الفلسطينية ، بل وضبابية واقع المجتمعات اليهودية المختلفة في دولة الاحتلال أمام ما يبدو من انفراط عقدهم الاجتماعي الذي ميز شكل نظامهم بالبدايات ،
فلا وضوح إلى أين ستتجه الأمور في هذا النظام الاستعماري وماذا سيُحدث ذلك من اثر على واقع شعبنا الفلسطيني اذ ما ذهبت الأمور الى حافة خطها بالحرب الأهلية بين قطاعات المتدينين والعلمانيين الليبرالين وكلاهما أصحاب فكر صهيوني لا يريد أن تتسع هذه الأرض لغيره الا ضمن شروطه ومعادلته بالفصل العنصري .
ان مواجهة ذلك يتطلب تاكيد لقاء الامناء العامين بالقاهرة التمسك برؤية إنهاء الأحتلال أولاً كبداية الطريق نحو ما يأخذنا لاحقا لامكانيات وجود فرص للسلام عند تغير الظروف الدولية ، وصمود شعبنا وتمكينه من العيش الكريم وتمسكنا بارضنا واستعادة الثقة بين قاعدة مكونات المجتمع المتنوعة والقيادة واعتماد إجراءات تُعزز من الآليات الديمقراطية والمشاركة الشعبية ودورها كمصدر للسلطات ، وتصعيد المقاومة الشعبية فعلاً لا قولاً والتي اقرتها القوانين الدولية للشعوب الخاضعة للاستعمار ، والعمل بالانفكاك عن الأحتلال بكل المعاني وتحديد العلاقة القائمة مع الاحتلال على قاعدة التناقض والصراع وفق قرارات الدورات المتعاقبة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير .
ان ذلك يجب ان يترافق مع توسيع قاعدة تحالفاتنا مع الشعوب والقوى التقدمية وانصار الحرية والديمقراطية والسلام بالعالم والدول المناصرة لحقوقنا الوطنية ولقضايا العدالة والسلام خاصة مع التحولات الجارية باوساط الرأى العام العالمي من صورة إسرائيل العنصرية الدينية اليوم .
كما من الأهمية الان التقرب من التكتلات الاقتصادية الناشئة خاصة مع بدايات ظهور النظام الدولي الجديد الذي أصبحنا نرى تداعياته خاصة بالاقليم . كما والانتباه والعمل الجاد إلى اهمية تمتين وحدتنا الوطنية في إطار منظمة التحرير التي يتوجب توسيع قاعدتها الشبابية من الجيل الجديد الذي بات دون تنظيم في هذه المرحلة ، بالإضافة ايضا إلى استيعاب القطاعات النقابية ومؤسسات المجتمع المدني الواسعة اليوم بفعل دورها وفق المتغيرات المجتمعية الحاصلة ، دون انحصار الحوار الوطني لاحقا بفصائل العمل الوطني على أهمية دورها الكفاحي رغم ان برامج البعض منها بات متكلسا اليوم وتاثيراتها بمجتمعنا باتت متراجعة . كما وتفعيل مؤسسات المنظمة خاصة بالشتات واماكن اللجؤ ودفع الحياة والحيوية بها كبيت معنوي جامع في غياب الدولة ، وكعنوان للتحرر الوطني والبناء الديمقراطي وتوحيد خطابها التحرري أمام العالم .
فالعالم بشعوبه يعنيه أن ينظر إلينا كأصحاب حق اقوياء نُمثل استمرار مسيرة كفاح مرحلة التحرر الوطني برؤية واضحة للوصول لحقوق شعبنا . وعلى حماس الابتعاد عن فكر حركة الاخوان المسلمين العالمية وتنظيمها والشروع بانهاء سريع لتداعيات الانقلاب أن أرادت الصفة والمكانة الوطنية الفلسطينية وانجاح حوار المسوؤلية والشراكة الوطنية ، والاعلان عن ذلك بالقاهرة كي لا يكون الحوار معها مكررا دون نتائج كقصص الف ليلة وليلة من جهة ، وعلى القيادة السياسية مصارحة شعبنا بما سيدور هنالك وببرنامج سياسي كفاحي وواقعي واضح ذو ابعاد ومضامين يستند الى ما جاء بنصوص وثيقة اعلان الاستقلال ، بما مثلته هذه الوثيقة التاريخية من شكل العقد الوطني الاجتماعي لمكونات شعبنا وضرورات الالتزام بها والمحافظة على ما مثلته من منهج لحياة مجتمعنا ، وبغض النظر عن اية نتائج تؤدي لها الانتخابات المفترض استحقاقها . فوثيقة أعلان الاستقلال هي عقد تنظيم شكل وفكر حركتنا الوطنية ومنظمة التحرير ومجتمعنا الفلسطيني بما ياخذ شعبنا إلى الحرية والاستقلال الوطني والتقدم في وطننا الذي ليس لنا سواه .