تبرهن وقائع جدّت أخيرا أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ماضية نحو إخراج خطة الانقلاب على الجهاز القضائي إلى حيّز التنفيذ، بالرغم مما تثيره من معارضة داخلية حادّة وانتقادات دولية بما في ذلك من الإدارة الأميركية، ما يُلزم رُبّما أن نعيد إلى الأذهان أن تلك الخطّة تُحيل في العمق إلى عقلية زعيم حزب الليكود واليمين الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أكثر مما إلى نزاهة الجهاز القضائي في إسرائيل. وهي عقلية سبق أن قورنت مرّاتٍ عديدةً بعقلية الألماني كارل شميدت التي سعت إلى إرساء السياسة عمومًا على أساس أنها قبل أي شيء القدرة على استكشاف العدو بغية كبحه وإسكاته.
وكرّر كاتب هذه السطور في السابق أن "قدرة استكشاف الأعداء" في السياق الإسرائيلي الداخلي لم تخرُج إلى العلن مع بدء الشرطة إجراء تحقيقات مع نتنياهو بشأن ارتكاب مخالفات جنائيّة، قبل أعوام قليلة، بل منذ عودة هذا الأخير إلى رئاسة الحكومة عام 2009، والتي انطوت آنذاك على أكثر من مؤشّر قويّ إلى أن اليمين الذي يقودُه نزع القفازات ضد أكثر من عدوّ بعد استكشافه، وبينهم الجهاز القضائي، والمؤسسة الأكاديمية، ووسائل الإعلام، ناهيك عن نخبٍ قديمةٍ داخل حزب الليكود جرى إقصاؤها شيئًا فشيئًا لصالح تثبيت قيادة نخبٍ جديدةٍ تحمل أجندات أشدّ عداء للديمقراطية على صعيد توازن القوى الداخلي، وللفلسطينيين عمومًا والفلسطينيين في الداخل خصوصًا.
ويجدر إعادة التذكير بأنه في عام 2009 أيضًا نُشرت في مجلة اليمين المُحافظ المحتجبة "تخيلت" مقالة ادّعى كاتباها أن جهاز القضاء الإسرائيلي، ممثلًا بالمحكمة العليا، لم يعد "مؤمنًا بالاستيطان اليهودي"، وأصبح يميل إلى حقوق المواطن عندما ينشأ تعارضٌ بين الأمرين، وذلك على خلفية مُجرّد مناقشة تلك المحكمة مسألة السماح لمواطنين من فلسطينيي 48 بالسكن في مستوطنات جماهيرية يهودية أقيمت على ما تُسمّى "أراضي دولة". وجرى التشديد، في ثنايا المقالة، على أنه بالرغم من أن الصهيونية لم تكن حركة متجانسة، فإن الاستيطان اليهودي في فلسطين اعتبر دومًا، في نظر شتّى تياراتها ومكوّناتها، هدفًا يحتل المرتبة الأولى، وكان مُكمّلًا لهدفٍ منشود آخر، هو هجرة اليهود من العالم أجمع. كذلك جرى التلويح بتهمة أخرى في وجه المحكمة العليا، فحواها أنه برغم انطلاقها من أن إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية، فإنها، في أغلب أدائها، أخضعت القيم اليهودية إلى القيم الديمقراطية.
ويقود خطة الانقلاب على الجهاز القضائي وزير القضاء الحالي، ياريف ليفين، الذي لا يألو جهدًا منذ أكثر من عقد في نشر مقالات، والإدلاء بمقابلاتٍ يتهم فيها المحكمة العليا بـ"مسّ طابع إسرائيل اليهودي" من خلال "تعلّق القضاة غير المبرّر بحقوق كونية ظاهريًا، وتفضيلها على قيم أساس تشكّل قاعدة الصهيونية". وفي مقالة نشرها ليفين في آب/ أغسطس 2018 في مجلة "الأمة" الفصلية الناطقة بلسان التيار التنقيحي، ذكر أن "حقّ شعب إسرائيل على أرض إسرائيل الكاملة"، والذي يعتبره الجمهور الإسرائيلي الواسع، بأغلبيته الساحقة، قيمة أساسية عليا "لا يحظى بأي وزن أو اعتبار في قرارات المحكمة العليا، على نحوٍ يغيّب هذه القيمة الأساسية، بصورة فعلية، ويفضّل عليها كل القيم الأخرى التي يعتبرها القضاة، لا الجمهور الواسع، أكثر أهمية".
طبعًا، لا أساس لكل هذه التهم الموجهّة من اليمين الإسرائيلي إلى الجهاز القضائي. ولا بُدّ من التأكيد مرّة أخرى أن المحكمة الإسرائيلية العليا سبق أن دفعتها عنها قبل أن تُوجّه إليها. كما أن جهاز القضاء الإسرائيلي كان مُلتزمًا، من ناحية نظرية، بفكرة الدولة اليهودية، حتى قبل سنّ "قانون القومية" عام 2018. بل يمكن القول إن الموقف الصهيوني هو بمثابة "مُعطى دستوريّ"، كما جاء في قرار شهير خطّه بيده رئيس هذه المحكمة، شمعون أغرانات، عام 1965 وكتب فيه: "إن إسرائيل ليست فقط دولة سيادية، مستقلّة، تتميّز بنظام يقوم على سلطة الشعب، بل أقيمت أيضًا كدولة يهودية في أرض إسرائيل".