الأزمة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من الأزمة التي تعيشها الشعوب العربية وعلى صعيد عالمي.  أزمة تبدو مستعصية طالما بقيت الطاقات المفترضة للشعوب مكبوتة، وطالما بقي الفكر غير قادر على المساهمة في إنشاء بنيات سياسية وثقافية ونفسية فاعلة في حقل التغيير، وغير قادر على إزالة القيود التي تعطل التفكير والحرية، وفي مقدمة تلك القيود الخوف من مخالفة الأكثرية وسط النخب والعامة، والإذعان لها. التحرر من القيود سيسمح بنقاش الاختلالات والأمراض وعناصر القوة وآليات الخروج من الأزمة. في أقل تقدير ثمة أهمية لمعرفة طبيعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتقنية وآثارها ونتائجها توطئة للاستجابة مع الواقع الجديد المنبثق عنها، وفي مقدمة ذلك تعديل البنية السياسية الاجتماعية أو إعادة بنائها، وتجاوز واقع أن «القديم يحتضر والجديد لا يولد بعد».
العقبات الخارجية التي يصطدم بها نضال الشعب الفلسطيني تزيد من خطورة العقبات الداخلية، التي يأتي في مقدمتها تعطيل القانون الدولي وعجز المؤسسات الدولية عن تطبيق الحل الذي قدمته ودعمته بعشرات القرارات ذات الصلة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد بلغ الإخفاق الدولي أوجهُ حين توقف عن مساعي إيجاد حل سياسي للصراع تحت مسمى حل الدولتين، مسلما بالوقائع الاستيطانية التوسعية، ومخالفا بذلك ميثاق الأمم المتحدة ومنظومة قوانينها ومعاهداتها وبروتوكولاتها وقراراتها التي تؤكد جميعا أن الوقائع تقاس بميزان العدالة والقانون وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا تقاس بالوقائع الاستعمارية العنصرية المفروضة على الأرض بالقوة المسلحة. عندما تسلم الإدارة الأميركية وبعض الدول الأوروبية بأن الوقائع عطلت الحل وأصبحت بديلا عنه، تظهر جليا مناهضتها الفعلية للعدالة والقانون والحق، وما يعنيه هذا الموقف من إفلاس سياسي وأخلاقي لا يمكن التسليم به. ويظهر الانحياز للوقائع الاستعمارية سافرا في ظلمه ويرقى إلى جريمة بحق الإنسانية، عندما تستبدل إسرائيل القانون والميثاق الدولي كمرجعية للصراع العربي الإسرائيلي وتعتمد بدلا منه الأيديولوجيا الدينية والأراجيف التي تمنح «أرض فلسطين التاريخية للشعب اليهودي» وتحول أرض فلسطين التاريخية إلى ملكية حصرية للإسرائيليين، وتحول الاستيطان إلى عمل طبيعي مشروع. هذا التمرد والانقلاب الإسرائيلي على القانون الدولي يجد مواقف دولية مؤيدة وحامية ومبررة له، كمواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة المدافعة عن الاستيطان كوقائع استعمارية، باستخدام «الفيتو» في مجلس الأمن، ومن خلال مواقف تجيز للدولة المحتلة الدفاع عن المستوطنين والمستوطنات غير الشرعية، ومن خلال منع ومعاقبة من يمارسون النضال ضد الاحتلال ومقاومته بكل أشكال النضال المشروعة بما في ذلك الأشكال السلمية والقانونية.
في ظل الغطاء السياسي الأميركي، تواصل الحكومة الإسرائيلية استبدال الحل الدولي للقضية الفلسطينية بحل إسرائيلي أميركي يتنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة ويثبت الوقائع الاستعمارية الاستيطانية ويشطب حق تقرير المصير والدولة وحقوق اللاجئين، حل عبرت عنه صفقة القرن الإسرائيلية الأميركية التي ما زالت تفعل فعلها على الأرض وعبر الاتفاقات مع دول عربية بالرغم من سقوط ترامب وفوز بايدن.
في ظل المتغيرات العربية والدولية والمتغيرات داخل النظام الاستعماري الإسرائيلي تمر الحركة السياسية الفلسطينية بحالة من التخبط السياسي وفقدان الاتجاه عنوانه، مجموعة من المخاطر التي تقود إلى تصفية القضية الفلسطينية وهي:
• خطر تثبيت الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية 67 - وضم القدس ولاحقا ضم مستوطنات الضفة باستثناء المدن والبلدات والمخيمات - وشطب قضية اللاجئين وحق العودة وحرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه المشروع في تقرير مصيره. ما يحدث، الآن، هو ممارسة أشكال من التطهير العرقي الداخلي وتثبيت الاحتلال بالوقائع وبالقبضة الأمنية والضم الفعلي، ويتم التعامل مع ترسيم الضم ومع احتمالات الترانسفير الخارجي في الوقت المناسب.    
• المضي في تفكك وتفكيك مكونات الشعب الفلسطيني (الوطن والشتات) وتفكيك مكونات الوطن بين ضفة وقطاع ومناطق 48 وقدس، وإعادة بعثرة الشتات (مخيمات سورية والعراق ولبنان والجالية الفلسطينية في ليبيا) وفصل كل مكون عن المكونات الأخرى. وبقاء الفلسطينيين في الأردن في حالة ملتبسة بين كونهم مواطنين أردنيين، وبين كونهم جزءا أساسيا من الشعب الفلسطيني.   
• الانتقال من الإطار التمثيلي الواحد إلى أكثر من إطار تمثيلي، سلطة «فتح» وسلطة «حماس»، وسلطة الدولة المراقب، والانتقال كتحصيل حاصل من مرجعية واحدة للقرار السياسي إلى أكثر من مرجعية واكثر من قرار، ومن مشروع وطني واحد إلى مشاريع عديدة، ومن هدف مركزي واحد إلى أكثر من هدف، وما يعنيه التفكك من تكرس الانقسامات وتغليب المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية، وتهديد السلم الأهلي.  
• استمرار البنية الأبوية البيروقراطية الشائخة للمنظمة التي أصبحت عاجزة عن تلبية احتياجات الفلسطينيين داخل وخارج فلسطين والدفاع عن حقوقهم بالحد الأدنى. واستمرار بنية السلطة البيروقراطية التي تفاقم عجزها عن تلبية المصالح الأساسية لمواطنيها، بما في ذلك تأمين مستوى من الأمن للمواطن في مواجهة الاستباحة الإسرائيلية للأرض والموارد والحقوق ومحاولات إخضاع السلطة ووضعها وجها لوجه أمام مواطنيها.   
• تحول الهوية الوطنية الجامعة والمُوَحِدة التي تضمن التعدد الديني والثقافي والسياسي إلى هويات فرعية كالهوية الدينية والقبلية والعشائرية والعائلية والجهوية التي تقود إلى صراعات داخلية وتساهم في تفكيك نسيج المجتمع المدني وتهدد السلم الأهلي.
• سيطرة الخطاب الديني المتزمت والثقافة التكفيرية التحريمية، واعتماد المعيارية الدينية الصارمة في تحديد الصواب والخطأ وفي المحاسبة، تلك الثقافة المتغلغلة فعليا داخل المؤسسة الدينية (الأوقاف والمساجد)، ومناهج التعليم، وفي وسائل إعلام ومؤسسات خاصة وعامة، سيطرة ثقافة التزمت تكبح التعدد الديني والثقافي وتقطع الطريق على تطور المجتمع وتميز ضد النساء والديانات الأخرى وتحطم الجسور مع الثقافات الإنسانية الأخرى.
• خطر توظيف نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته في أجندات إقليمية هدفها استخدام القضية الفلسطينية كورقة ضغط لتحسين شروط البلد الداعم المنفصلة عن تلبية الحقوق الوطنية.   
في ظل المخاطر السابقة التي تفعل فعلها السلبي يوما بعد يوم وتدفع الشعب برمته إلى الإحباط والتشاؤم والانعزال وتغلب الصراع الداخلي على الصراع ضد الاحتلال، لا يعقل انتظار المزيد من التفكك وشطب الحقوق التاريخية الوطنية والمدنية.
لا مناص من تدخل بَنَّاءْ يستجيب للمصلحة الوطنية العليا ولحاجة المجتمع للتطور. والتدخل لا يعني، امتلاك حلول سحرية قاطعة ومانعة. التدخل هو واجب وطني وفكري وأخلاقي لقطع الطريق على صيرورة التحولات السياسية والتحولات الرجعية، والتدخلات في تقرير مصير الشعب، ومواصلة السير نحو انتزاع الحقوق، وممارسة حق تقرير المصير. المطلوب ليس فقط تفادي حدوث المخاطر والحيلولة دون نشوء فراغ قد تملؤه وتتحكم فيه قوى خارجية وداخلية معادية، وليس الاكتفاء بسياسة رد الفعل برفض المشاريع المعادية فقط، ولا القبول بتأجيل مفتوح لحل المشاكل، أو التسليم بحالة اليأس والإحباط المتغلغلة في أوساط النخب، وإنما العمل على دراسة المستقبل الممكن والأكثر احتمالا للحدوث، ومعرفة موازين القوى القائمة والمحتملة، والمتغيرات التي تحدث في مختلف المجالات بإيقاعات سريعة وبطيئة، واستشراف التغييرات الضرورية وآليات تحقيقها، وتفعيل الحوار بين القوى المجتمعية الحية والتي لها مصلحة في التغيير من اجل بناء مقومات التغيير.