توقفنا في مقالة سبقت عند الدولة القومية الحديثة، التي كان أسوأ ما فيها عذابات مُروّعة نجمت عن عملية الصهر والتوحيد القوميين، وما وسمها من ديناميات الانتخاب والإقصاء بطريقة قسرية في حالات كثيرة. لم يحدث هذا دفعة واحدة بطبيعة الحال، ولا اكتملت صورة السمات الرئيسة للدولة دفعة واحدة. وما يعنينا ولادة العداء للسامية، بالمعنى الحديث للكلمة، في سياق هذه العملية التاريخية، بعدما مُنح اليهود حقوقاً متساوية، في دول أوروبية مختلفة، منذ أواخر القرن الثامن عشر.
والواقع أن للتذكير بالمعنى الحديث للسامية ما يبرره. ففي أزمنة سبقت انعتاق اليهود، وعلى مدار قرون، ظهرت تجليات معادية لليهود واليهودية، وطغت عليها تأويلات دينية، على الرغم من إمكانية تفسيرها استناداً إلى معطيات اقتصادية وسياسية. ولكن العداء للسامية، في ظل الظاهرة والدولة القوميتين، انطلق من التشكيك في إمكانية أن يصبح اليهود مكوّناً عضوياً من مكوّنات الجماعة القومية (الروسية، الفرنسية، الألمانية، البولندية.. الخ) وبالتالي الارتياب في مدى ولاء هؤلاء الغرباء للجماعة القومية ودولتها التي منحتهم حقوقاً متساوية.
وبهذا المعنى، تجلّت المسألة اليهودية، في القرن التاسع عشر، كمعضلة نظرية وعملية في آن، وعلى هامشها نشأت سجالات يصعب حصرها بشأن ولاء اليهود، ومدى حقيقة انتسابهم إلى هذه الجماعة القومية أو تلك، وما تُشكّل ميولهم الكوزموبوليتية من خطر عليها.
لم تكن المشكلة نظرية في كل الأحوال، فقد اندلعت أعمال عنف ومذابح معادية لليهود (بوغرومز) خاصة في إمبراطورية القياصرة، ناهيك عن تباين درجات اندماجهم في مجتمعات أوروبا الشرقية والغربية والوسطى، ودور التحيّزات القومية، والعنصرية، في عرقلة الاندماج، إلى حد بدا معه مستحيلاً في نظر آباء الصهيونية، والمعادين للسامية. وقد تبنى هؤلاء وأولئك المرافعات نفسها، لأسباب مختلفة طبعاً.
ولنُذكّر، هنا، بأن الصهيونية جاءت في مرافعة هرتسل كدليل على فشل الاندماج بعد محاكمة درايفوس. ومن المؤسف أن صعود النازي قد توّج هذا التاريخ المضطرب بكارثة الهولوكوست. ومع ذلك، لم يكن تاريخ اليهود في سياقه الغربي، على مدار قرون طويلة، سلسلة متلاحقة من أعمال الاضطهاد والعنف، كما زعم المؤرخون الصهاينة، الذين لفّقوا تاريخاً طويلاً من العذاب وصفه المؤرخ اليهودي الأميركي صالو بارون (أهم المؤرخين اليهود في القرن العشرين) بالتاريخ "دامع العينين".
الصحيح أن اليهود عاشوا فترات ازدهار، ونالوا امتيازات في مجتمعات مختلفة، وشاركوا أحياناً بوصفهم وسطاء، وجامعي ضرائب، في اضطهاد الفلاحين الأوكرانيين والروس نيابة عن السيد الإقطاعي. وقد اهتم عبد الوهاب المسيري بهذا الأمر، على نحو خاص، ووجد فيه ما يُفسّر وجود اليهود في الإطار الأوروبي "كجماعة وظيفية".
على أي حال، لم يفشل الاندماج نتيجة معطى سابق وثابت، في هوية وماهية اليهودي، الدينية والثقافية والإثنية، لا يمكّنه من الاندماج. ومن اللافت، فعلاً، أن خرافة الجوهر الثابت (الديني في الغالب) تبناها آباء الصهيونية وأعداء السامية في وقت واحد، وعثر فيها وجها العملة الأيديولوجية الواحدة على سر اليهودي.
وفي مرافعة ذائعة الصيت، يرد طيّب الذكر ماركس في سجال مع المؤرخ واللاهوتي الألماني برونو باور "لا تبحثوا عن سر اليهودي في الدين بل عن سر الدين في اليهودي"، فاليهودية، والكلام لماركس، لم تبق في التاريخ رغم التاريخ بل بفضله. الرد يصلح للتداول حتى في الوقت الحاضر، وفي معرض الرد على مستهلكي ومعتنقي خرافات أيديولوجية من طراز "بروتوكولات حكماء صهيون".
والمهم، لن تكتمل دلالة ما تكلمنا عنه، حتى الآن، ما لم نضع في الاعتبار أن هذا كله يمثل ذاكرة قريبة العهد لتواريخ مختلف المجتمعات الأوروبية، وتجاربها السياسية، وثقافاتها، على امتداد القرن العشرين، وأن العداء للسامية غالباً ما استُخدم للتدليل على أمر ما ونقيضه. "فبروتوكولات حكماء صهيون"، مثلاً، التي فبركتها مخابرات القيصر للتحذير من مؤامرة يهودية مزعومة، لم تكن سوى محاولة لتشويه سمعة المعارضة والحركات الثورية في روسيا، التي نشط في صفوفها راديكاليون يهود.
وبعد انتصار ثورة البلاشفة، تبنى اليمين الديني والقومي في أوروبا خرافة البروتوكولات (جلب ضباط مكتب المستعمرات البريطاني طبعتها الإنكليزية إلى فلسطين بعد الانتداب، وتُرجمت إلى العربية في أكثر من طبعة) للتحذير من تهديد الشيوعية (التي يتزعم أحزابها يهود) على الكنيسة وثقافة الغرب وحضارته. وفي مفارقة بليغة أن ستالين ختم عهده، وحياته، بما عُرف بمؤامرة الأطباء 1953، حين اعتُقل 9 أطباء، بينهم 6 يهود، بتهمة تدبير مؤامرة لاغتيال قادة الدولة والحزب في الاتحاد السوفياتي.
وقبل هذا بعام واحد، أُعدم 14 من قادة الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، بينهم 11 يهودياً، بتهمة التآمر، وتزويد إسرائيل بالسلاح، رغم مسارعة موسكو إلى الاعتراف بالدولة الإسرائيلية بمجرد إعلانها، وحقيقة أن الإسرائيليين قاتلوا بأسلحة تشيكية في العام 1948 ولم يكن تزويدهم بالسلاح ممكناً دون موافقة مسبقة من موسكو.
في وسعنا العثور عند هذا الحد على صلة مباشرة تُعيدنا إلى كونديرا، الذي كان في الثالثة والعشرين من العمر، حين أُعدم قادة النظام والحزب الحاكم في بلاده (كان حينها عضواً في الحزب على الأرجح) بتهمة تدبير مؤامرة يهودية، ولا نجازف إن قلنا إن صدمة المحاكمات والإعدامات تبدو علامة فارقة، وربما بوابة إلى التجربة الرضيّة، التي زعزعت يقينه الأيديولوجي.
لا نستطيع اختزال هذا كله في عبارات قليلة، الآن، فثمة ما يُحرّض على استكشاف العلاقة بين تجربة كونديرا الشخصية، وذاكرته الثقافية من ناحية، وعالمه الروائي، وخياراته السياسية، من ناحية ثانية.. فاصل ونواصل.