مع استمرار الأزمة التي تشهدها إسرائيل على خلفية ما يوصف بأنه "انقلاب قضائيّ" تدفع قدما به الحكومة الحالية، تتكرّر الحاجة إلى تأكيد أن قوة التيار اليمينيّ الاستيطانيّ القومي والديني، الذي تشكّل أطيافه ائتلاف هذه الحكومة، تشهد تصاعدًا مستمرًا منذ نحو عقدين، ما يؤجّج مساعيه إلى الهيمنة والتحكّم أكثر فأكثر في وجهة إسرائيل المستقبلية من طريق إنجاز موضوعين رئيسيين: الأول، حسم الصراع مع الفلسطينيين، ولا سيما ما يرتبط بمستقبل الأراضي المحتلة منذ 1967 بما يؤول إلى مأسسة الضم ونظام الأبرتهايد، والثاني، ترسيخ هوية الدولة وطابعها "دولة قومية يهودية".

ولا يخفي الناطقون بلسان هذا التيار غايتهم هذه منذ أعوام، فمثلًا قبل ثمانية أعوام نُشر تقرير موسّع في صحيفة "مكور ريشون" اليمينية تحت العنوان الموحي "بعد بضعة أجيال: هل نحن في طريقنا إلى دولة دينية؟"، أشير فيه، من ضمن أمور أخرى، إلى أن هذا السؤال هو المركزي الذي يشكّل هاجس أوساط مهتمة بمستقبل إسرائيل وسيرورات تطوّرها الديموغرافي والاجتماعي، كما أنه يستبطن أسئلة ثانوية أخرى منها: هل سيصبح المتديّنون أغلبية في الدولة؟ وهل سيتلاشى المجتمع العلماني ويختفي؟ وهل باتت إسرائيل في مستهلّ سيرورةٍ ستنتهي بهجرة كثيفة للعلمانيين؟

لعل أكثر ما يستدعينا لأن نستعيد هذا التقرير أن التساؤلات السالفة جرى طرحها على مجموعة من المثقفين وعلماء الاجتماع والحاخامات اليهود الإسرائيليين، ولدى جمع إجاباتهم عليها، واستمزاج مواقفهم وآرائهم، خلصت كاتبة التقرير إلى أن حصيلة ذلك إبراز "المأساة العلمانية كما تتجسّد أمامنا، وهي تكمن في الخوف من يومٍ مقبلٍ تصبح فيه العلمانية غير ذات معنى أو أهمية، وتتحوّل إسرائيل إلى دولة شريعة أصولية يديرها متديّنون"! بما يستدعي، بل يحتّم، في نظرها، طرح سؤال آخر: هل سيبقى ثمّة علمانيون في إسرائيل بعد 20 عامًا؟، أو هل يمكن الحديث، منذ الآن، عن موت العلمانية في إسرائيل؟

ومثلما أشار كاتب هذه المقالة مرارًا، لا يمكن الحديث عن مجتمع دولة الاحتلال وما يعتمل في داخله من تحوّلات بمعزل عن السياق السياسي العام. ووفقًا لهذا التقرير، ترتبط التحوّلات المُشار إليها بالتطرّف القوموي ـ اليميني المتصاعد باستمرار، إلى جانب اعتداءات وانتهاكات أخرى تطاول سلطة القانون وحقوق الأقليات، غير أن بيت القصيد هو تأكيد بعضهم أن هذه التحوّلات ناجمة عن تصاعد قوّة المواطنين العرب وازدياد وزنهم، ما يدفع كثيرين من اليهود إلى البحث عما يصفونها "هوية مميزة" و"قاسما مشتركا واسعا"، علاوة على ما في ذلك من ردّة فعل على الوضع الأمني.

على المستوى الخاص بالعلاقة الداخلية بين اليهود، المحور الأهم هو محور العلاقة بين المتدينين والعلمانيين. وفي هذا الصدد، المقاربة السائدة بين المتدينين اليهود هي أن السبب الأبرز للتحوّل نحو التديّن يتمثل في الشعور بالخواء والملل في عالم العلمانية. وصاحب هذه المقاربة هو أحد مفكّري الصهيونية الدينية، الحاخام والأكاديمي موشيه راط، الذي يشدّد على أن ما ينعته بأنه "اليسار العلماني" حكم الدولة طوال عشرات الأعوام، وإن خسر فيبدو أن ثمّة سببا وجيها لذلك! ويضيف: "إننا نرى في أوروبا أيضا أنه كلما اتّسعت العلمنة والإلحاد تضاءلت معدّلات الولادة، بينما يهاجر العرب إلى هناك ويسيطرون!".

وردّا على سؤال آخر عما إذا كان يعتقد إن إسرائيل ليست في حاجة إلى علمانيين، قال راط: "لا أعتقد أننا في حاجة إلى علمانيين. وبنظرة إلى الوراء، يمكن القول كما قال الحاخام كوك إن دور العلمانية كان ضروريًا في المرحلة التي لم تكن فيها اليهودية قادرةً على تدبّر أمور إدارة الدولة والجيش... أما وقد أصبح المتدينون يحتلون جميع هذه المواقع، فبالإمكان القول إن العلمانية قد أنهت مهمّتها التاريخية. كل ما قامت به يستطيع القيام به اليوم أشخاص متديّنون... وأعتقد أن العلمانية في العالم أجمع استنفدت ذاتها، ونظرًا إلى أنها تقود إلى نوع من التدمير الذاتي، يبدو من الأجدى الانتقال إلى المرحلة التالية"!