لم أتفاجأ من سؤال زميلتي. الاعلامية وطلبها مني أن أكتب عن معاناة اطفال الهيموفيليا في فلسطين، وخاصة على ضوء وفاة الطفل شمس الدين عسكر قبل عدة أشهر وبعد حادث مر به ومضاعفات النزف التي اصابته ولم يتم معالجته حسب البروتوكولات العلاجية. 
ترددت بقبول طلب زميلتي الاعلامية في البداية، والسبب أنني كنت أفكر بعمق بشؤن المرضى وتداعيات الاشكاليات التي ترافق مضاعفات مرضهم وما يحدث مع هؤلاء المرضى منذ سنين طويلة وقبل وفاة شمس الدين وتقصير كثير من الأطراف في توفير احتياجاتهم الضرورية.
 اتعامل مع هذه الامراض ومع المرضى وعائلاتهم منذ أكثر من خمسين عام بصفة شخصية من جانب وبجانب تطوعي من طرف اخر، وفي لحظة سؤال زميلتي، تبادر الى ذهني تساؤلات مهمه. اليس من المفروض ان يكون الاهتمام بهذه الشريحة بغرض الحل ؟، وما المهم في تسليط الضوء على هذا الامر ؟، وكيف تكون التغطية الاعلامية ومتابعات الموضوع نحو طريق للحل ؟، وعن أي جانب من معاناة مرضى نزف الدم الوراثي أكتب؟   
  أعترف لكم أنه وان كنت منخرطا في الاعلام، الا أنه لا يحفزني الاعلام للكتابة في هذا الامر، بل إنني تجنبت الحديث والكتابة في الامر لثلاثة عقود من عمري، لأنه يألمني ان يتم وضع معاناة المرضى وآلامهم في الواجهة ويتناسى الناس امال المرضى وخاصة الاطفال منهم. إلا أنه تبرز اليوم للواجهة اراء وتحليلات كثيرة وخاصة على ضوء اللغط المتسارع مجتمعيا وتبادل الاتهامات وفي خضم تكاثر لجان التحقيق الطبية ونتائجها المرتبطة بالإشكاليات القائمة في النظام الصحي، ومع هذا تستمر معاناة كثر من المرضى وتحدث اعاقات بل وفيات وتسجل الوفيات كقضاء الله وقدره، وينتشر استخدام ونقاش مصطلحات كالاهمال الطبي والاخطاء الطبية، مع انه يجب التركيز على السلامة الطبية للمرضى ومنع او الحد من الاعاقات والوفيات، ويجب انً  تكون  السلامة الطبية هي الاساس لاهتمامات كل المواطنين والمسؤولين في مواقعهم. 
سرع هذا التساؤل من زميلتي الأفكار  والمشاعرلدي ي بالتحرك في كافة الاتجاهات وأرجع ذاكرتي الى عقود مضت والى طفولتي التي اخذت اقارنها بمعاناة اطفال الهيموفيليا في فلسطين حاليا ومع ما يحدث مع المرضى من فترة طويلة..
   لقد ولدت مع الهيموفيليا وها انا مستمر بمعاناتي من مضاعفات النزف وتكراره والامه ومنذ تلك اللحظة الاولى لولادتي وعلى مدار الساعة.
 يمر امام ناظري شريط ذكريات مليء بالكثير من الاحداث، ويتوقف هذا الشريط امام تفاصيل حادثة معينة حصلت معي ولا زلت اتذكرها وكنت وقتها ابن سنة او سنتين.
  أحمل فردة حذاء في يدي وأجلس متألما على كرسي في صيدلية العريان مقابل حسبة بلدية البيرة مساء يوم من ايام الصيف الحار، وبعد يوم شاق مليء بالألم وقد تنقلت خلال ذلك النهار بين ذراعي امي ما بين بيتنا. وعيادة الدكتور حمدي التاجي الفاروقي رحمه الله وفي اروقة مستشفى ابناء رام الله، وانتهى بي المطاف   مع امي في ذلك اليوم   في هذه الصيدلية لشراء مسكن للألم.
نعم كنت حافي احدى القدمين واحمل فردة حذائي في يدي والسبب أن كاحلي منتفخ ولا أستطيع تحريكه بسبب نزيف داخلي حاد في مفصل الكاحل ولا أستطيع لبس الحذاء ولا أستطيع تحريك او الضغط على قدمي ولا أستطيع المشي حتى، ولا اتذكر في ذلك اليوم أنه تم إعطائي في المستشفى وحدة دم لإيقاف النزيف.  ففي تلك الحقبة الزمنية لم يكن يعرف او يستخدم لا البلازما او الكريو او العامل المخثر المركز (الفاكتر) لعلاج مريض الهيموفيليا، ولكن ما أستطيع تذكره واشعر به وكأنه يحدث معي اليوم وتكرر مرات ومرات عبر تلك العقود ، ذلك الالم الشديد وصعوبة حركةً مفصل كاحلي واستمر الحال هكذا لعدة ايام بلا مقدرة علىً النوم بسبب شدة الالم، وكان الصيدلاني ولعل اسمه كامل ان لم تخني ذاكرتي، فقد كان يمازحني ويسال مستهزئاً: لماذا انا أحمل حذائي بيدي؟ ولعله كان يريد ان يخفف من شدة المي ويوقف من بكائي الشديد.  
 اقارن اليوم ما كان يحصل معي كطفل ومع ما يحدث مع اطفال الهيموفيليا في فلسطين   وأتساءل، هل يستطيع جمال ابن العشرة أشهر إدراك ماذا يعني انه مصاب بالهيموفيليا من نوع ألف، فهو غير قادر عن التعبير عن معاناته المرضية   والتحدث عن معاناته الاضافية من مشاق السفر بالتنقل باستمرار من قطاع غزة مع والدته الى مجمع فلسطين الطبي في رام الله لأخذ علاجه نتيجة حاجته للعلاج الدوري وهي الابر الوردية من العامل المخثر الثامن والتي يحتاجها دوريا وقد يتطلب اخذها اكتر من مره أسبوعيا. 
اما عبد الرحمن طفل بيت لحم فهو ان لا يتذكر ما حصل معه بعد الولادة مباشرة وكيف تم بتر ساقه نتيجة اختلال عامل التخثر المسمى بروتين سي لديه نتيجة تخثرات حصلت في ساقه اثناء الحمل.  الا انه يدرك اليوم حاجته لتبديل ساقه الصناعية كل ستة أشهر لتتلاءم مع نموه ولتساعده على المشي بالإضافة لحاجته المستمرة. للعوامل المخثرة. للتعامل مع مشكلة الدم التي يعاني منها والنزف المتكرر لديه، اما عمر ابن الاربعة اعوامً وابن مخيم جنين فلا يستطيع ان يشرح لنا معاناته المتكررة اسبوعيا وصعوبة محاولات الممرضات والاطباء الفاشلةً لإدخال الابر في اوردته لإعطائه الدواء، فعشرات المحاولات لإدخال الابر في اوردته عند كل نزيف يحصل معه تفشل وتؤلمه وتؤلم والدته أكثر وأكثر والام ترى ابنها يصرخ ويتألم وهو بحاجة للعلاج لإيقاف النزف ولا تستطيع الامر التصرف سوى البكاء على الم ابنها.    
 يحدث النزف والتخثر في المفاصل والعضلات والاعضاء الداخلية وغالبا يحدث تلقائيا في معظم الحالات ولا يكون ظاهرا للعيان، الا ان الالم من تحشر الدم والمياه في تلك المفاصل والعضلات والاعضاء الداخلية مؤلم جدا ويؤدي للإعاقات وحتىً للموت.  والاطفال غير قادرين عن التعبير عند حدوث النزف او التجلط الداخلي وغير. الظاهر للعيان، فما بالك ان لم يدرك او يصدق الاهل او مقدمي الخدمة الطبية بنزيف داخلي لابنهم ولعدم رؤية الاصابة. او النزف او التخثر وأدراك المعاناة والالم نتيجة النزف المتكرر ومضاعفاته في كل اجزاء جسده، والادهى لا  تعطى  او لا تتوفر العوامل المخثرة الخاصة بعلاج اطفالهم او لا تعطى العلاجات لهم حسب البروتوكولات المعتمدة والمتبعة عالميا.   
أتدرون، إنها رحلة ألم وأمل على مدار الساعة ليس لأطفال الهيموفيليا فقط بل للبالغين منهم وفي اعمار مختلفة ومن الجنسين، فدعونا نتحدث ونكتب ونناضل ونعمل علىً تحقيق امل الاطفال وكل مرضى الهيموفيليا من اجل توفر ادويتهم والاخصائيين لعلاجهم بطريقة مثلى ونجعل من هذا الالم طريق نحو تحقيق الامل لأنها هذه حياتهم منذ ولادتهم حتى وفاتهم. 

**ناشط مجتمعي فلسطيني مقيم في الضفة الغربية ومتطوع في المجال الاعلامي والحقوق الصحية أحد مؤسسي ورئيس مجلس ادارة الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم. / الهيموفيليا