منذ فترة ونحن نتابع متغيرات دولية تستهدف النظام الدولي القائم على الهيمنة احادية القطب الأمريكية ، وقد شمل ذلك متغيرات وتحولات بالمواقف السياسية ودور للاعبين من دول وقوى بالأقليم ايضاً ، خاصة بعد زيارات عدد من زعماء الدول الكبرى للمنطقة وحضور اجتماعات لتجمعات اقليمية فيها في محاولة توسيع قاعدة التحالفات السياسية الدولية كجزء مما يجري في هذا العالم . 

وقد رافق ذلك حضور ومشاركة عدد من دول الإقليم في لقاءات التجمعات الاقتصادية الناشئة كالبريكس وشنغهاي والتي من المرجح تحولها إلى تكتلات جيوسياسية تساهم في حسم الصراع القائم اليوم بين الشرق والغرب اساسا الذي يحاول ابطاء التحولات الدولية ومنغيراتها ، وبمساهمة تجمعات اقليمية من مختلف القارات الأخرى وتحديدا منها اللاتينية والأفريقية التي تشهد متغيرات تطيح باستغلال قوى الأستعمار الغربي لمقدراتها ، تساهم بإيجاد نظام دولي جديد متعدد الاقطاب . بعد أن كان الدور الأمريكي في كلا القارتين قد أدى الى انهيار أمني وانمائي من خلال شراكات مع دول غربية ، الأمر الذي أدى الى الفقر والبطالة وارتفاع حجم اعمال الإرهاب والجرائم هنالك . 

لقد بدأت سرعة هذه التحولات بشكل واضح بعد المواجهة العسكرية التي فرضتها الولايات المتحدة بالوكالة في وسط القارة الأوروبية وتحديدا في منطقة اوراسيا التي تعتبرها الولايات المتحدة ذات أهمية جيوسياسية كبرى يتم السيطرة على أوروبا ومن ثم على العالم من خلال السيطرة عليها وذلك لمحاولات حصار روسيا ومنع تمددها .

حيث تعود هذه الرؤية الأمريكية إلى عهود سابقة كتبها مستشار الأمن القومي الأمريكي بريجنسكي وتحديدا ما قبل انهيار الأتحاد السوفيتي.

كما كان الهدف الأساس من ما سُمي بالربيع العربي تغير المعادلات الشرق أوسطية من خلال اضعاف الدولة الوطنية وقدراتها في محاولة لبسط الهيمنة والقوة الإسرائيلية كجزء من المخطط الأمريكي بالشرق الاوسط قد منيت بالفشل حيث جرت الرياح بما لا تشتهيه السفن الأمريكية الغارقة اليوم بصراعات في معظم بحار العالم الذي تنتشر به القواعد العسكرية لها ، كما وفشل زيارات بايدن للدول العربية في وقت سابق وانهيار مشروع الناتو العربي .

كان ذلك لمحاولة استمرار الإدارة الأمريكية في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي اعلنته كونداليسا رايس قبل ما يقارب ٢٥ عاما والذي حظي بدعم الثعلب الصهيوني شمعون بيريس وجماعته انذاك حين بدء التخطيط له . 

أطماع الولايات المتحدة القائمة على رؤيتها الإستراتيجية للأمن والطاقة والسياسة الخارجية بخصوص الشرق الاوسط وشرق المتوسط وفق قانون خاص اقره الكونغرس قبل سنوات عدة لم تتوقف بغض النظر عن تغير الإدارات فيها ، فعملت على ابتداع ما سمي بالسلام الابراهيمي وما تبعه من اتفاقيات تطبيع دون ثمن وفي تغيب متعمد للحقوق السياسية لشعبنا الفلسطيني وتجاوز لأرادته لمحاولة استدامة الأحتلال الأستيطاني بغطاء من الأنظمة المطبعة وبتجاوز القانون الدولي والانظمة والقرارات الأممية بل وانتهاكها . 

واليوم فان هذه الإدارة تحاول تحقيق أهداف عدة من خلال محاولة عودتها للشرق الأوسط بتكتيكات سياسية جديدة بعد أن اخذت بالانسحاب جزئيا على اثر فشل سياساتها بسوريا والعراق واليمن أمام صمود شعوبها والتواجد الروسي والصيني متعدد الاشكال فيها بعد أن قامت هي بتوتير العلاقات مع الصين خشية من فقدانها هيمنتها . 

وتتلخص هذه الأهداف باعتقادي من خلال محاولة إيجاد تسويات سياسية تتعلق بقضيتنا وقضايا الشرق الأوسط بشكل عام بما يخدم مصالح الحركة الصهيونية عموما ، من اجل تحقيق مكسب انتخابي لإدارة بايدن والحزب الديمقراطي مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية ، ومن اجل مساعدة دولة الأحتلال لمحاولة اخراجها من ازمتها المتفاقمة حتى تحافظ على قيمتها كشريك استراتيجي ، ومن اجل مواجهة التمدد الروسي ودور الصين المتنامي بالمنطقة التي أنجزت اتفاق المصالحة الإيرانية السعودية وتقدمت بورقة مبادرة سياسية للرئيس ابو مازن لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي حظيت بموافقة عربية ايضا ، الأمر الذي لم يترك ارتياحا لدى الإدارة الأمريكية. 

الان فمن الواضح عبر مسير الأحداث أن اليوم ليس كما كان بالأمس بما يتعلق بالعلاقات الأمريكية العربية ، فيبدوا أن الدول العربية قد أدركت قيمتها المضافة في معادلات السياسة الدولية ، وهي اصبحت تتجه لعلاقات جديدة متعددة مبنية على الاحترام وتبادل المنافع مع الشرق بما فيها روسيا والصين بحقول مختلفة ، بعيدا عن شكل العلاقات القائم بالسابق مع الولايات المتحدة والغرب عموما الذي استنزف قدرات تلك الدول واحاطها بنوع من الهيمنة السياسية والاقتصادية عليها وجعل من بعضها دول ريعية تابعة .

لذا فقد كان من الضروري للولايات المتحدة أمام هذا الواقع المتغير ولخدمة الأهداف التي تحدثت عنها ولتقليل حجم خسائرها ، أن تلجاء إلى سياسة استباق الأحداث في محاولة لاعادة تموضعها بالشرق الأوسط من خلال استكمال وتوسيع الانضمام لاتفاقيات ابراهام . فكان بدء الحوار الأمريكي السعودي من جهة والأمريكي الإسرائيلي من جهة اخرى لمحاولة الوصول الى تطبيع العلاقات بين السعودية ودولة الأحتلال بعد عدد من الإجراءات التي سربها الإعلام أو تم الإعلان عنها .

 كما وتريد من تدخلها كعامل مساعد يخدم هذا التوجه حل قضايا الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان ، بعد توسطها في ترسيم حدودهما البحرية العام الماضي.

من جهة اخرى وقبل زيارة نتنياهو سيزور زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد واشنطن الأسبوع المقبل ويلتقي بمسؤولين كبار في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية لنقاش أمر التطبيع الذي تسعى له الولايات المتحدة بين المملكة السعودية وإسرائيل ، كما والى استعراض آفاق التغيير الحكومي بدولة الأحتلال حتى تكون أكثر قبولا وأقل اعتراضا على موضوع التطبيع .

الآن ، وبعد تسريبات اعلامية واسعة تتعلق بتفاصيل هذا المسار وتقديم ملاحظات إلى كافة الجهات المعنية بالاتفاق ، فاني لا أعتقد اولاً ، أن الأمريكان وبموافقة الكونغرس قادر أو أنه يرغب بالضغط على إسرائيل بقبول "تنازلات جوهرية " في شأن قضيتنا الوطنية ، وثانيا فان لا هذه الحكومة الفاشية الدينية أو أن أتت حكومة بتحالف مع لابيد وجانتس ترغب ورغم الأزمة العميقة القائمة بطرفهم اليوم بالتعاطي السياسي الجوهري مع ملف القضية الفلسطينية بما يؤدي إلى وقف مشروعهم الاستيطاني التوسعي الصهيوني أو ببداية القبول باقامة الدولة الذي يتطلب موضوعيا انهاء الأحتلال والانسحاب من الأراضي المحتلة ، وثالثا فان المملكة السعودية لن تكرر تجارب فاشلة اخرى من التطبيع أو ما حدث مؤخرا في ليبيا ، فهي اي السعودية تمتلك مقومات قيادة العالم العربي اليوم بعد المصالحة مع إيران وامتلاك العلاقات المتميزة مع روسيا والصين الدولتين ذات الإمكانيات التي من الممكن ان تعوض للسعودية ما لن تلبيه الولايات المتحدة لها من متطلبات .

ان المسألة ومجرياتها لا يجب ان تؤخذ بردود سريعة تحت مبررات السياسة البرغماتية بعدم معاداة الأمريكان الآن وبعدم تكرار الموقف من اتفاقيات التطبيع السابقة التي لم ترضى شعوب الدول بها ولم تحقق سلاما ولم تغير من واقع شعبنا وجرائم الأحتلال شيئا.

برايي الشروط التي يجب أن تفرض على إسرائيل للسير في اي اتفاقية برعاية كان من كان ، يجب أن تتلخص بالموقف السياسي لقبول مفاوضات بجدول زمني ورعاية دولية على شاكلة المبادرة الصينية وسندا لمبادرة السلام العربية القائمة على القانون الدولي والقرارات الاممية تُفضي الى انهاء الأحتلال الأستيطاني اولاً والقبول بحق شعبنا بتقرير مصيره ، بغير ذلك تكون المسألة أو ما يدور من مفاوضات هي ذر للرماد بالعيون دون الحقوق الوطنية السياسية تُؤمن فقط استدامة المشروع الصهيوني الديني او الليبرالي او تقدم نوعا من الانفراج لحكام الاحتلال في ازمتهم المحلية والدولية . فعلى المؤمن أن لا يُلدغ من الجحر الأمريكي مرتين او اكثر خاصة في ظل انحسار هيمنها وموقفها الضعيف اليوم .