ما زال هناك خلط وفهم خاطئ حتى يومنا هذا حول مفهوم المسؤولية المجتمعية فمعظم المنظمات لا تعي هذا المفهوم بمعناه الواسع، حيث تتفاوت درجة فهم وتكامل هذه المسؤولية من منظمة إلى أخرى، فاهتمام ومشاركة أغلب المنظمات في كافة القطاعات بمسؤوليتها المجتمعية لا يزال يقتصر على الدعم والتبرعات المادية والمعنوية فقط دون الأخذ بعين الاعتبار القضايا الجوهرية ذات التأثيرات الاقتصادية والبيئية والمجتمعية لتثبت بذلك قيامها بدورها كما يجب تجاه المجتمع وعملائها، فالاقتصار على الدعم المادي والمعنوي هو جزء بسيط جداً وغير إلزامي، كما أن هذا الاهتمام لا يعكس الحقوق والمبادئ التي يجب الالتزام بها من قِبَل تلك المنظمات.
 أصبحت المنظمات في جميع أنحاء العالم أكثر وعياً وحاجةً إلى سلوك مسؤول مجتمعياً يُكسِبُها ثقةً ومصداقيةً أعلى كمنظمات مسؤولة مجتمعياً وملتزمة أخلاقياً ويوفر لها استمرارية أعمالها الأمر الذي يعود عليها بزيادة الأرباح والانتاج وتقليل النزاعات والاختلافات بين الإدارة والعاملين فيها والمجتمعات التي تتعامل معها، فالعمل الدائم والمستمر لا يعني توفير المنتجات والخدمات التي ترضي وتلبي احتياجات عملائها، ومن هنا لا بدَّ للمنظمات من جعل هذه المسؤولية جزءاً لا يتجزأ من سياستها واستراتيجيتها وثقافتها التنظيمية وعملياتها واتخاذ الإجراءات المناسبة ذات الصلة بتلك المسؤولية والمراجعة المستمرة لهذه الإجراءات. فمتى بدأت وكيف نشأت المسؤولية المجتمعية؟ وما هو الخلاف الذي كان قائماً حول هذا المصطلح؟ وما هي المسؤولية المجتمعية؟ وما هي أهم المبادئ الأساسية والمواضيع والقضايا الجوهرية التي تتضمنها؟ هذا ما توضحه هذه المقالة بالاستناد إلى المواصفة الدولية الإرشادية ISO 26000 الصادرة عن المنظمة الدولية لتوحيد المقاييس ISO إضافة إلى أنها تعرض بعض الأمثلة حول الشركات التي خسرت عملائها وأسواقها نتيجة عدم مصداقيتها والتزامها بمسؤوليتها تجاه المجتمع والأطراف المعنية.    
بدأت المسؤولية المجتمعية في ثمانينات القرن الماضي ثمَّ تطورت حتى وصلتنا إلى العالم العربي تقريباً في العام 1990 وعند تتبع نشأتها نجد أنها بدأت في الشركات الكبيرة لاعتبارين هما: تحسين البيئة الداخلية للعمل وتقليل المخاطر الناشئة عن مخلفات الشركات الصناعية والبترولية وآثارها السلبية على البيئة والمجتمع، ومن هنا حرصت تلك الشركات على مكافأة موظفيها وأفراد أسرهم حينما يتعرضون لمخاطر العمل بمزايا عديدة منها: التأمين الصحي والتأمين على الحياة وتحسين بيئة العمل والالتزام ببرامج الرعاية الصحية، ومحاربة الفقر، والمشاركة في برامج التعليم والتدريب والتأهيل. 
 منذ أن بدأنا نسمع بهذا المصطلح كان هناك خلافٌ وجدلٌ كبيران عليه، هل هي المسؤولية الاجتماعية أم المسؤولية المجتمعية وظلَّ هذا الخلاف قائماً حتى أصدرت المنظمة الدولية لتوحيد المقاييس هذه المواصفة في عام 2010 ونزعت هذا الخلاف وأوضحت بأنها المسؤولية المجتمعية وليست المسؤولية الاجتماعية لأن المؤسسة جزء من المجتمع والمجتمع هو أحد أصحاب المصالح. 
أصدرت المنظمة الدولية لتوحيد المقاييس ISO هذه المواصفة الدولية وهي أحد المواصفات الفريدة من نوعها وهي غير إلزامية وغير مخصصة لأغراض منح الشهادات أو الاستخدامات التعاقدية وأي مطالبة بالحصول على هذه الشهادة سيكون تحريفاً وتزييفاً لقصد هذه المواصفة والغرض منها. 
ISO 26000 هي مواصفة دولية تعطي إرشادات حول المسؤولية المجتمعية والقضايا والمبادئ والممارسات المتعلقة بها وكيفية دمج وتنفيذ وتعزيز سلوك تلك المسؤولية داخل المنظمات، وتنبع هذه المواصفة من سلوك والتزام أخلاقي في المقام الأول وتهدف إلى مساعدة جميع المنظمات في كل من الدول المتقدمة والنامية بغض النظر عن حجمها أو نوع النشاط الذي تمارسه في أن يكون لديها التزام عالي وتطبيق فعلي وقوي لمسؤوليتها المجتمعية وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة.  
عرفت المواصفة الدولية ISO 26000 المسؤولية المجتمعية بأنها: "مسؤولية المنظمة تجاه تأثير قراراتها وأنشطتها على المجتمع والبيئة وذلك من خلال سلوك أخلاقي يتسم بالشفافية من شأنه أن: 
1.    يساهم في التنمية المستدامة متضمنة صحة ورخاء المجتمع.
2.    يأخذ بعين الاعتبار توقعات الأطراف المعنية. 
3.    يتماشى مع القوانين المطبقة ومعايير السلوك الدولية. 
4.    يُدمج عبر المنظمة ويُمارس من خلال علاقاتها. 

أما أهم مبادئ تلك المسؤولية التي ركَّزت عليها هذه المواصفة الدولية فهي: 
1.    المساءلة: بمعنى أن تكون المنظمة مستجيبة للمساءلة عن تأثيراتها على المجتمع والبيئة والموافقة على الفحص والتدقيق الملائمين.  

2.    الشفافية: ينبغي على المنظمة أن تُفصِح على نحو واضح ودقيق وبدرجة معقولة ووافية عن سياساتها وقراراتها وأنشطتها وأن تكون هذه المعلومات متاحة ومفهومة ويمكن الوصول إليها مباشرة من قبل الأطراف ذات العلاقة. 

3.    السلوك الأخلاقي: ينبغي أن يكون سلوك المنظمة مبني على أخلاقيات الأمانة والعدل والنزاهة مع الأخذ بعين الاعتبار الأطراف ذات العلاقة ووضع وتحديد قيمها ومبادئها الأخلاقية. 

4.    احترام مصالح الأطراف المعنية: أن تضع المنظمة في اعتبارها الاحترام والتجاوب مع مصالح أطرافها المعنية. 


5.    احترام سيادة القانون: لا يحق لأي منظمة أن تكون فوق القانون، لذا ينبغي أن توافق على احترامها لسيادة القانون بشكل إلزامي فيما يتعلق بالقوانين والقواعد المكتوبة والمعلنة. 

6.    احترام المعايير الدولية للسلوك: أن تحترم المنظمة المعايير الدولية للسلوك مع التزامها بمبدأ احترام سيادة القانون.

7.    احترام حقوق الإنسان: أن تحترم المنظمة حقوق الإنسان وينبغي أن تعترف بأهمية هذه الحقوق كونها حقوق عالمية وعامة وتعد جزءاً لا يتجزأ من الحقوق المطبقة في كافة الدول والثقافات. 
ومن المواضيع التي تتضمنها المسؤولية المجتمعية: الحوكمة التنظيمية، حقوق الإنسان، ممارسات العمل، البيئة، ممارسات التشغيل العادلة وتكافؤ الفرص بين الجنسين، قضايا المستهلك ومشاركة وتنمية المجتمع وغيرها الكثير من المواضيع. 
وقد أوضحت الإحصائيات الدولية أن 86% من أصحاب المصالح يفضلون التعامل مع المنظمات التي لديها دور في خدمة المجتمع، وأن 70% منهم يرون أن هذه المسؤولية لها دور مهم في التنمية المستدامة، في حين أشار 64% منهم على أنهم يشجعون أن تكون هذه المسؤولية من معايير تقييم المنظمات. كما أن خبراء المسؤولية المجتمعية أجمعوا على أن المنظمات التي تعتنق هذا المفهوم وتقوم بتطبيقه فإن معدل أرباحها يزيد 18% عن تلك التي ليس لديها برامج في هذه المسؤولية. 
ويُذكر أن سبب انهيار شركة انرون الأمريكية عام 2001 وهي شركة تعمل في مجال الطاقة هو هبوط أسهمها إلى مستويات الصفر في غضون أشهر بسبب غياب ممارسات الحوكمة التنظيمية، حيث قامت الشركة بتضخيم أرباحها من خلال التحريف والتلاعب في البيانات المحاسبية وتعديل الميزانية العمومية بطريقة توحي إلى أطرافها المعنية بأدائها الجيد.   
أما عن فضيحة شركة فولكس فاغن عام 2015 وهي شركة ألمانية عملاقة تعمل في مجال صناعة المركبات والتي وصلت خسائرها مليارات الدولارات نتيجة التلاعب في نسبة الانبعاثات من عوادم المركبات التي تعمل على الديزل، حيث اعترفت الشركة بتلاعبها في 11 مليون مركبة مزودة بأجهزة عوادم لا تُظهِر حجم التلوث الحقيقي للبيئة وجاء ذلك على خلفية تحقيق وكالة حماية البيئة الأمريكية مما أدى إلى انهيار أسهم الشركة بنسبة 20% خلال يومين. 
وفي الختام، ومع التطورات المتسارعة في بيئة الأعمال وزيادة حدة المنافسة أصبح من الضروري للمنظمات العمل على بناء ثقافة المسؤولية المجتمعية، فإدراك منظمة ما لمسؤوليتها المجتمعية يؤثر في الميزة التنافسية والسمعة الطيبة والقدرة على الحفاظ على العاملين والعملاء والحفاظ أيضا على معنويات الموظفين والتزامهم وإنتاجيتهم وبناء علاقات طويلة الأمد مع البيئة المحيطة التي تعمل فيها المنظمة، إضافة إلى تحسين ممارسات إدارة المخاطر، توليد الابتكار، القضاء على الفساد بكافة أشكاله، كسب عملاء جدد، خفض استهلاك الطاقة والمياه، وغيرها الكثير، كما يكون للمستهلكين والعملاء والمستثمرين والجهات المانحة تأثيراً مالياً كبيراً وإيجابياً على المنظمات التي تعي وتطبق هذه المسؤولية وتقوم بإعداد تقارير دورية خاصة حول أدائها فيما يتعلق بمسؤوليتها المجتمعية للوفاء باحتياجات الأطراف المعنية على نحو استباقي وإبداعي من خلال ما تقوم به من أنشطة ومبادرات. 
لذا ينبغي للمنظمات أن تحدد أولويات العمل على أساس خططها لدمج مسؤوليتها المجتمعية في ممارساتها اليومية وأن تكون جزءاً متكاملاً مع الاستراتيجية التنظيمية ذات المهام المحددة والقابلة للمساءلة على كافة المستويات الإدارية لما له أثر إيجابي في تكامل السياسات الاقتصادية والبيئة والمجتمعية، ومن هنا لا بدَّ أن ينصب التركيز أولاً على بناء التوعية وزيادة الفهم لجوانب المسؤولية المجتمعية، ومن وجهة نظري فإن هذه المواصفة ستكون في السنوات القليلة القادمة جزءاً حقيقياً من العمل المثالي المطلوب، فأيزو 26000 هي واحدة من أهم المواصفات في قياس أداء المنظمات وتحديد مدى التزامها ومراقبتها وتقييمها ومراجعتها لأنشطتها التي تقوم بها وتحقيقها لأهدافها ومساهمتها في تحقيق التنمية المستدامة.