نحن الفلسطينين الذين تعرضنا للترحيل والتهجير القصري وجرائم النكبة وما زلنا ضحية الظلم التاريخي الاستعماري بحقنا منذ عام ١٩١٧ ، لسنا مع طرف ضد طرف اخر فيما جرى هنالك او ما يجري الان من خلاف ونزاع بين الأذر والأرمن حول قضية "أقليم ناغورنو كارباخ" والذي ما زالت تداعياته قائمة حتى اليوم رغم الاتفاق الموقع سابقا بخصوصه بين ارمينيا واذربجيان سابقا . لكننا نقف وفق سياساتنا الثابتة ضد الأعتداء على حقوق الشعوب واراضيها ومع نصوص القانون الدولي وتطبيق القرارات الأممية لحل النزاع وفرض السلم والأمن الدوليين أينما كان في هذا العالم على قاعدة وحدة اراضي الدول وسيادتها وحرية وحق شعوبها في تقرير المصير ، كما اننا نتمسك بمناهضة اعمال التطهير العرقي والابادة الجماعية والتهجير القصري ضد الشعوب أو حتى بالمَس بأي من حقوقها . 

أن ما تقوم به أذربيجان منذ يوم السبت الماضي من تهجير قصري للأرمن من ناجورنو كاراباخ ، سيكون له تأثيرات على العلاقات بين إسرائيل وتركيا وأذربيجان وروسيا وأرمينيا وإيران وتخلط الأوراق بينهم في تلك المنطقة . رغم أعلان الحكومة الأرمنية غير المعترف بها في اقليم ناغورنو كاراباخ قبل بضعة أيام أنها ستحل نفسها بحلول نهاية العام ، الأمر الذي لم يستدعي كل اعمال التهجير الجارية والتي فاقت مئة الف مواطن ارمني من تلك المنطقة منذ يوم السبت الماضي .

لكن إسرائيل التي ترى في نفسها دولة فوق القانون ، ترغب في أن تكون جزء من أي لعبة سياسية توسعية تُشعل الحروب وتكرس انظمة القمع في هذا العالم ، وهي فعلا تريد او عليها ان تكون بحكم مبررات نشأتها الأستعمارية وروايتها التوراتية المزعومة ودورها الوظيفي ، جزء من تنفيذ خطط سياسة التطرف والتوسع وتغير الجغرافية السياسية بالمنطقة خدمة لاهدافها ولمنهج التوسع الأستعماري واضطهاد الشعوب ، ومعاداة القانون الدولي والاتفاقيات الدولية ، ومن اجل استدامة الهيمنة الأمريكية.  

فتتدخل حتى أمنياً وعسكريا في مناطق مختلفة بالعالم في القوقاز وبالبلقان وأمريكيا اللاتينية وسوريا والعراق وغيرها ، كما في افريقيا وشرق المتوسط وتحديدا منها باليونان وقبرص زمن انقلابات ديكتاتورية العسكر ، وذلك وفق الاستراتيجية الامريكية وضمن الدور المطلوب منها لإثارة الفوضى وتنفيذ تلك المخططات .

الأرمن بالاعوام الماضية وجهوا الاتهام لدولة الأحتلال الإسرائيلي بالمشاركة في جريمة الحرب التي تُرتكب بحق وطنهم الأصلي وشعبهم ، وهم ما زالوا يوجهون هذه التهمة حتى الأيام مع تصاعد الأحداث الجارية . 
اتهام جديد اضاف الى التهم الموجهة لدولة الأحتلال الإسرائيلي التوسعية التي ارتكبت وما زالت المجازر وجرائم الاحتلال والاحلال والفصل العنصري ضد شعبنا الفلسطيني منذ النكبة . ويُسقِط هذا الاتهام الجديد رغبة إسرائيل في أن تَبقى هي الضحية الوحيدة امام العالم ، فيما تدعيه هي من ارتكاب جرائم الابادة الجماعية بحقها .

أتذكر ان الأرمن الذين اتهموا دولة الأحتلال الأستعماري الاسرائيلي ايضا خلال الأعوام الماضية بالمشاركة بالحرب ضدهم وبتهجيرهم ، تظاهروا أمام سفارة إسرائيل في العاصمة اليونانية أثينا عندما كنت أقيم بها سفيرا لبلدي، تنديدا بسياسات دولة الأحتلال الإسرائيلي العدوانية الاجرامية ضدهم. 

الأرمن كان عدد كبير منهم ومنذ تاريخ طويل يشكلون جزء من نسيج مجتمعنا الفلسطيني بالعديد من مدننا خاصة بالقدس ورام الله، كان منهم الصديق الشهيد أرتين الذي سقط برصاص الأحتلال بالانتفاضة الأولى برام لله . كان منهم رواد الصناعة الفلسطينية والصناعات الحرفية ومنهم من انخرط بحركتنا الوطنية الفلسطينية زمن الأحتلال ، ولهم بالقدس حي يُسمى باسمهم "حي الأرمن" ، وهم يقفون ضد تسريب املاكهم من خلال صفقات تديرها إسرائيل فيه . هذا الحي الذي رفض الرئيس الشهيد المؤسس أبو عمار التفاوض بخصوصه او التنازل عنه ، وأعتبر أسمه " ياسر عرفتيان" انذاك تأكيدا منه على هوية الأرمن الفلسطينين والتصاقهم بقضايا شعبهم الفلسطيني والدفاع عنه. 

ومنا هنا ولاسباب اخرى وعلى قاعدة توازن مصالحنا مع الجميع تكمن ضرورة فتح سفارة لدولة فلسطين في العاصمة الأرمنية يريفان الأمر الذي تأخر برأيي كثيرا ، وتنشيط علاقات التضامن والصداقة والتعاون مع الشعب الأرمني ودولته إلى جانب العمل الدبلوماسي وفق المصالح المشتركة وقواعد القانون الدولي .
 
أن عدد الأرمن في فلسطين يبلغ الاَن حوالي ٧٠٠٠ نسمة ، وقد جاءت المجموعات الكبيرة منهم إلى القدس ضمن هجرة واسعة الى بلاد الشام بعد تشريدهم من ديارهم الأصلية عام ١٩١٥ وارتكاب الامبراطورية العثمانية التهجير القصري والمجازر بحقهم وفي حق السريان انذاك وفق وقائع التاريخ والتي اودت بحياة اكثر من مليون أرمني . تلك الابادة الجماعية انذاك والتي لم يقر بها العثمانيين ، كان قد حرمها شيخ الأزهر بإصداره فتوى تحرم قتلهم كما أصدر الشريف حسين بن علي مرسوما لجميع القبائل العربية باستضافة وحماية الأرمن المشردين انذاك .

منذ عقدين من الزمن ساعدت إسرائيل أذربيجان على ارتكاب جرائم حرب وهزيمة الأرمن في ناغورنو كاراباخ ، حيث تتمتع إسرائيل بعلاقة استراتيجية مع الأذربيجانيين تشمل صفقات أسلحة بمليارات الدولارات ، كما انها تشتري جزءا كبيرا من النفط الذي تحتاجه من أذربيجان ، وبحسب مصادر ، تسمح أذربيجان لإسرائيل بتشغيل محطات لجمع المعلومات الاستخبارية عن إيران وروسيا على الأراضي الأذرية وتفتح الطريق لها إلى هنالك . 

وفي الماضي ، ظلت العلاقات الأمنية بين البلدين سرية ، لكن في السنوات الأخيرة، عرضت أذربيجان أسلحة إسرائيلية متقدمة، بما في ذلك الصواريخ والطائرات الانتحارية بدون طيار في عروضها العسكرية. وكشفت أيضًا عن وجود مصنع ينتج طائرات بدون طيار إسرائيلية على الأراضي الأذربيجانية .

 وقبل ايام ذكرت صحيفة هآرتس ، "أن الصحفيين ونشطاء المعارضة الأذريين قد تم استهدافهم بالمراقبة باستخدام برنامج التجسس Pegasus التابع لشركة NSO الإسرائيلية بعددها ٢٥ أيار ٢٠٢٣ " . هذا البرنامج كان قد استخدم مؤخرا في اعمال التنصت والتجسس على عدد من اقطاب احزاب المعارضة اليونانية خلال هذا العام ، الأمر الذي آثار فضيحة سياسية كبرى للحكومة التي اصبحت الان ترتبط باتفاقيات امنية وعسكرية مع اسرائيل .

طوال هذه الفترة لم تكتفي إسرائيل بتزويد أذربيجان بالأسلحة ، كما أنها ساعدتها على تشويه التاريخ بأن رفضت إسرائيل الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن ، والتي تُعرفها بمجرد "مأساة" ، وهو ما ينبع جزئياً من علاقتها مع الحكومة الأذربجيانية . 

وقبل ايام أصدر حوالي ١٣٠ من المثقفين والاكاديمين الأتراك بيانا حذروا فيه من سياسة الإبادة الجماعية التي تنفذها أذربيجان في ناغورنو كاراباخ ، ودعوا المجتمع الدولي إلى التحرك السريع ومنع وقوع مأساة إنسانية جديدة بدلا من البقاء في دور المراقب.
 وفي بيانهم ، أشارت تلك المجموعة من الباحثين الأتراك إلى أن النظام الأذربيجاني، الذي حاصر ناغورنو كاراباخ لمدة تسعة أشهر، شن عمليات عسكرية أمام العالم أجمع خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقالوا في بيانهم الذي نشرته هارتس ايضا “نفذت أذربيجان هذا الهجوم بدعم صريح من تركيا وإسرائيل ، بينما كان العالم كله يراقب بصمت ما يحدث" .  
وأضاف الباحثون الأتراك في بيانهم بالقول ان "هناك خطر واضح من التطهير العرقي والإبادة الجماعية"، مؤكدين أن تحذيرات المدعي العام السابق للمحكمة الجنائية الدولية م. أوكامبو تتحول إلى حقيقة واقعة واحدة تلو الآخرى ."

وفي اطار هذه التعقيدات والتداخلات الجيوسياسية بالقوقاز وخاصة بما يجري الان من عملية تهجير قصري واسعة ، فأن طهران التي ترتبط بعلاقات جيدة مع ارمينيا تريد تجنب المواجهة مع تركيا حليف اذربجيان ، التي يتم من خلالها تمرير خطوط أنابيب الغاز الإيرانية ، والتي تشترك معها في مصلحة سحق حركة المعارضة الكردية .

ومع ذلك، فإن هذا ليس مجرد تحالف تكتيكي بين ثلاث دول، تسعى كل منها إلى تحقيق طموحاتها المحلية. تركيا التي تقدم وتؤهل نفسها كموزع للغاز الطبيعي في محاولة للتحول إلى قوة إقليمية، وتخطط مع أذربيجان لمد خط أنابيب يربط بين البلدين وإنشاء ممر بري يمر عبر أرمينيا. 
وتعارض أرمينيا ذلك ، كما تعارضه إيران، لأن مثل هذا الممر مع خطوط أنابيب الغاز الخاصة بها سيعني السيطرة التركية والأذربيجانية، أو على الأقل وجودها في الجزء الجنوبي من أرمينيا. وترى إيران أن مثل هذا الممر الذي سيمر عبر أرمينيا بالقرب من الحدود الإيرانية، سيؤدي إلى قطع ارتباطها الجغرافي مع أرمينيا، ومن خلالها مع روسيا. لكن بالنسبة لتركيا وأذربيجان فهذه هي الفرصة التي يريدونها هنالك . 

وهذه ليست الحملة الأولى التي تساعد فيها تركيا أذربيجان في حربها للقضاء على الجيب الجغرافي الأرمني. وفي حرب ٢٠٢٠ ، التي استمرت ستة أسابيع وأدت إلى مقتل الآلاف من الأشخاص، قدمت تركيا مساعدات عسكرية للأذريين ، ونقلت إلى جبهة القتال مئات المقاتلين السوريين الذين كانوا جزءاً من الميليشيات الموالية لتركيا في شمال سوريا.  

 وهكذا تجد ايران نفسها عالقة في قيود جيوسياسية تجبرها على الحفاظ على علاقة حساسة مع دولتين تربطهما علاقات وثيقة مع إسرائيل وهم اذربجيان وتركيا . وفي حين أن روسيا حليفة إيران منشغلة بما يدور باوكرانيا الاَن وما تتعرض له من حرب بالوكالة من جانب الناتو ولا تريد فتح جبهات اخرى ، فإن هذا يسمح للتحالف الإسرائيلي الأذربيجاني بدعم تركي بتحقيق طموحاته على حساب الأرمن اولاً ومن ثم إيران ومصالح روسيا ايضا كما أثبتت حرب ناجورنو كاراباخ الخاطفة ، وهو ما لا تعارضه الولايات المتحدة بل ترى به ما يخدم رؤيتها السياسية الاستراتيجية بالمنطقة واستغلال ذلك للضغط على روسيا . 

ما يحدث اليوم مرة اخرى في ناجورنو كاراباخ ليس أول حالة تطهير عرقي تحمل بصمات إسرائيل عليها. 
إن اضطهاد الروهينجا في ميانمار والمسلمين خلال حرب البوسنة ليس سوى مثالين اخرين من بين أمثلة كثيرة ومتعددة تورطت بها دولة الأحتلال الإسرائيلي إضافة إلى ما ذكرته في بداية المقال من مناطق اخرى ، والتي ساتناولها بتفاصيل اكثر في مقال لاحق وبما يرتبط بجوهرها واهدافها مع اتفاقيات التطبيع الجارية الآن. 

وفي ظل ازماتها المتفاقمة اليوم لن تنقذها لا المشاركة في توسيع اعتدائاتها وطول يدها القذرة الضاربة او توقيع اتفاقيات التطبيع المذلة في محاولة منها للتهرب من استحقاقات القانون الدولي وإنهاء الأحتلال والابرتهايد .